لا تزال الاجتماعات الإنسانية مرتعاً خصباً وبيئة حية لتبادل كثير من الثقافات والعادات، وقد تختلف وسيلة نقل إفرازات تلك الاجتماعات من زمن إلى آخر.
واليوم نرى وسائل الإعلام تساندها القنوات الفضائية ناقلاً نشطاً لأنواع العادات والأفكار، بغثها وسمينها. وآثارها المدمرة ما تلبث أن تظهر جلية على أحوال المتلقي.
ومع أن ديننا الحنيف قد وضع لنا قواعد شرعية راسية ملائمة لكل زمان ومكان (تضمن ـ بإذن الله تعالى ـ صلاح أحوال الناس وعلاقاتهم، وينتهي بسالكيه إلى الجنة غاية المطالب)، فإننا لم نسلم من انعكاسات كثير من التغيرات على أحوالنا وأفعالنا، نتيجة الانفتاح على ثقافات العالم الغربي المبنية على أنظمة وديانات وضعية.
ومن باب التسديد والمقاربة نسلط الضوء على جانب من تلك الجوانب لندرس الأسباب ونصل إلى نتائج.
إن المتأمل في واقع مجتمعاتنا اليوم على وجه العموم، والمجتمعات النسائية على وجه الخصوص، يجد قناعاً براقاً إلا أنه لم يخف سوء ما تحته، وهذا أمر طبيعي، فأي ستار لا يبنى على تقوى من الله تعالى فإنه سرعان ما يتكشف ويبدي سوأته.
وإيماناً منَّا بقناعة القارئ بما يطرح فقد عرضنا استبانة أبدت فيها 88% ممن عرض عليهن السؤال أن المخالفات الشرعية أصبحت ظاهرة ملموسة، وأكدت 96% منهن بأن المخالفات الشرعية موضوع يستحق الطـرح. وفي سؤال عن الفترة العمرية التي يلاحظ فيها انتشار هذه الظاهرة: أكــدت 91% أن سن المراهقة مرتع خصب لها، بينما قالت 73% إن طالبات المرحلة الثانوية أكثر قابلية لها. وتقبلها طالبات الجامعة بنسبة 77%، وأكدت ما نسبته 35% إمكانية ظهورها في المراحل بعد الجامعة.
ونسلط الضوء على محورين رئيسيين نعتقد أنهما الأساس وتأتي المحاور الأخرى تبعاً:
المحور الأول: كون المعروف في هذه الأزمان صار منكراً، والمنكر صار في عرف الناس معروفــاً:
إن من أولى الأولويات في مخططات أعداء الإسلام، وأسوأ المؤامرات على الأمة التي تبناها النظام العالمي الجديد (في إطار نظرية الخلط بين الحق والباطل، والمعروف والمنكر، والسنة والبدعة): تذويب الدين في نفوس المؤمنين، وتحويل جماعة المسلمين إلى قطيع يساق خلف شهواته، مستغرق في ملذاته، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً. كذلك فإن هذا النظام حريص على أن يصب فيهم العقائد المهزومة والأفكار المتردية، فقد أرّقهم أن يكون المسلمون قوة واحدة مترابطة بأخلاق وآداب وقيم ثابتة، وساءهم قوة الإسلام وصلابة الجسد الإسلامي، فسعوا جهدهم لهدمه وحاربوه بالسلاح والذخيرة.
وقد توصل هؤلاء إلى أن المرأة أساس صلاح الأسر ومرتكز فلاح الأمم؛ لذا سددوا نحوها السهام، وجمّلوا قبيح دعواهم بقولهم: "تعالي إلى الرقي والتطور". ورددوا: "لا تكوني رجعية". ولا عجب في ذلك، فهم متلهفون للسير في جنازة ديننـا!
فأنى لأمة أن ترتقي درجات المجد وترفع راية الإسلام والدفاع عنه.. وربة الأسرة وراعية البيت سائرة في ركب عدوه؟ فكانت المرأة أبسط وسيلة استخدمها الغرب لبلوغ غاياته فانتشرت المخالفات الشرعية في أواسط النساء انتشاراً واسعاً, وقد كان من أبرز أسباب انتشارها (كما جاء في استبانة وزعت على مجموعة من النساء) ما يلي:
القنوات الفضائية 93%
الفراغ 85%
قلة الوازع الديني 77%
التقليد والإحساس بالنقص 63%
فالإعلام بصوره وأشكاله كافة أسهم كثيراً في انتشار كثير من المفاهيم الضارة والنافعة, فمن خلال نتائج استبانة وزعت على عدد من النساء تبين أن مصدر ثقافتهن:
31% الإعلام
67% العلم والثقافة
89% التربية الصالحة
33% التربية الذاتية
وأما عن أثر الإعلام على العقل والفكر والحياة، فقد أثبت ذلك61%، ونفاه 23%، وأكد أثره في حياة الآخرين 81%.
إن الجهود الغامضة لا تزال تبذل في غير ما سبيل؛ لتحصل على أجيال مهيئة لقبول مثل هذه الصور المشوهة للإسلام، حتى نرتضي ما قام في أوساط السذج البسطاء من أهله من الجرأة على تحريم الحلال وإحلال الحرام، أو قطع ما أمر الله به أن يوصل، والوصول به إلى واقع يدفع بكثير من العادات البعيدة من هداية الله عز وجل، فيألف بعض الناس التفلت من كثير من المسلمات، مع مصادمة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ودعوة متهافتة إلى تحرير الناس من أواصر القيود الشرعية كما يزعمون. ولعل أكثر ما صوب عليه سهام التغريب هي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، مع وجود الثورة المعلوماتية والثقافات العولمية التي تهدف إلى جعل العالم كتلة واحدة دون تميز، الأمر الذي سبب الهجوم الكاسح والحرب التي لا هوادة فيها على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهنا موضع حديثنا حول هذه القضية:
فمتى تكون السُنة تخلفاً؟ ومتى كانت ثوابت الدين وقيمه رجعية؟ بل هي مواكبة لكل عصر لا تقدح في تطوره ولا تقدمه. لقد أحدثت مظاهر ترف العيش غطاء سميكاً يحول دون معرفته، فتقلبت الموازين، فمن مظاهر هجر السنن والآداب الشرعية في المجتمعات النسائية ـ مثلاً ـ: ترك السلام واستبداله بتحايا محدثة ما أنزل الله بها من سلطان، حتى لا تكاد تعرف مدى التزام المرأة إلا من تحيتها حين تبتدئ بالسلام.
أما حب التجمل فهو غريزة في المرأة لا يستطيع أحد أن ينكرها، ولا تلام كذلك عليها، فقد أمرت بالتجمل، وهذا ليس بخاف على أحد، ولكن المحذور في الأمر هو التوسع الملحوظ في الزينة، فأصبح لبس الضيق والقصير والشفاف وشبه العاري والكعب العالي هو غاية الأناقة والجمال، ومن لم تلبس مثل ذلك فليست من الأناقة في شيء. ومن أكثر أنواع المخالفات انتشاراً في المجتمعات النسائية: إمرار البخور على النساء، وهنا المحذور الشرعي الخطير ـ كما جاء عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ـ، فمتى خرجت المرأة من بيتها وهي متعطرة فمرت على رجال فوجدوا ريحها فهي زانية.
وفي سياق الحديث عن المخالفات الشرعية، قالت "د. شيخة المفرج" ـ عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام، في حديثها عن تلك المخالفات ـ: إن انتشار مثل تلك الممارسات، والابتعاد عن السنة والعدول عن تطبيقها؛ لإضفاء بعض لمسات المدنية والحضارة على الشخصية، راجــع إلى دونيـة وانهـزامية، قال تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}. وكذلك الواجب على المسلمة السعي لنيل رضا الله تعالى، وإن كان في تحصيله غضب الناس؛ لتضمن بذلك السعادة في الدارين.
ويحق للسائل بعد ذلك أن يسأل عن الأسباب التي أدت لظهور مثل هذه المخالفات وعن أسباب انتشارها، وعن الحلول الممكنة لها.
وقد تبين لنا من خلال الاستبانة المطروحة أن الإعلام بجميع صوره وأشكاله يتحمل تبعات كثير من المخالفات، كذلك التربية غير الصالحة والتقليد الأعمى، وضعف الوازع الديني لدى بعض نسائنا، وغفلتها عن أهميتها كبنت وزوجة وأم مربية، والشعور بالنقص وضعف الثقة بالنفس، والخوف من الانتقاد وانعدام القدوة وجلساء السوء. والحرص على مواكبة الحضارة والأخذ من حضارة الغرب المزيفة وعدم عرضها على ميزان الشرع والانفتاح الكبير الذي يشهده العالم اليوم بجميع قنواته وطرقه، وكذلك السفر إلى الخارج.
أما عن أسباب انتشارها فهي كثيرة نجملها كما يلي:
* يحسن أن يكون في قمة هذه الأسباب: ترك إنكار المنكر، الذي أصبح أمراً عزيزاً هذه الأيام، مع أن 65% ممن عرضت عليهن الاستبانة أكدن رضاهن التام عن النفس فيما لو أنكرن منكراً وتعرضن لإهانة، مع إصرارهن على معاودة الكرة لو تيسر لهن ذلك!! فنقول: أين مثل أولئك النسوة مع هذا الزخم الهائل من المخالفات؟ مع ذلك لا نكاد نرى مُنكِراً حكيماً.
* السعي للوصول إلى كل جديد إشباعاً لرغبات المرأة من حب الظهور والتميز وضعفها أمام المغريات.
* ضعف مستوى التعلم والتربية الذي نالته الفتاة.
* الفراغ الذي تعيشه المرأة مع وجود الخادمات، الأمر الذي سهل خروجها المتكرر، وكثرة الاجتماعات النسائية وما تنطوي عليه من كثير من المنكرات مع غياب الناصح.
* عدم وجود بديل مناسب وقلة الأنشطة التي تهتم بتفعيل دور الفتاة في المجتمع.
* الإعراض عن تعلم العلم الشرعي، وغياب دور الولي وغفلته عن مقتضيات القوامة.
الحلول:
* التوعية الإسلامية عن طريق القنوات التربوية: (المدارس – المساجد – الجامعات) والقنوات الإعلامية المقروء منها والمرئي والمسموع.
* الشد بقوة على أيدي المخالفين لأحكام الإسلام كبيرها وصغيرها في جميع المحافل (المدارس – المؤسسات الحكومية الأخرى – دور الأفراح – الاستراحات – أماكن النزه – الأسواق العام).
* وضع رقابة صارمة وقوية على كل ما يرد عبر القنوات الفضائية ويتعارض مع مبادئ ديننا الحنيف، ووضع حد لورود المجلات والصحف التي ربما تحمل في طياتها ما يخالف الشريعة الإسلامية.
* وضع ضوابط للسفر للخارج، وتشجيع السياحة الداخلية وتسهيل أمورها.
* القراءة في سِير الصالحات وأمهات المؤمنين واتخاذهن قدوات.
* توعية أولياء الأمور بما يدور حولهم وقيام الرجل بولايته على نسائه.
* الاطلاع على ما يخططه الغرب من مخططات لهدم الإسلام، وبيان ذلك للناس وشرحه لهم.
خلف الجدران:
وندخل قليلاً إلى داخل تلك المجالس ونرى ماذا يدور فيها.. وبنظرة فاحصة نرى أن الحوارات الساخنة والنقاشات الحادة هي السمة الواضحة على المجتمع النسائي، فكثيرة هي الموضوعات المثيرة التي يتم الحديث حولها في مجالس مطولة، يتوزع الحديث بين المشاركين في آن واحد، فكل من في المجلس يتكلمن بصوت واحد وفي موضوعات مختلفة ومتباينة.
فهذه تحدِّث من بجانبها عن زوجها، وأخرى تحدِّث من هي مقابلة لها عن مناسبة حضرتها، وثالثة تتحدَّث وهي في أول المجلس مع أخرى في آخره، وهكذا... في ضجيج وصراخ وتقاذف بالألقاب والشتائم أحياناً! وهذا يختلف بالطبع وطبيعة المدعوات ومستوى تعليمهن.
ويدخل الكذب في أحداث قصة مثيرة تستهوي انتباه جميع الحاضرات! عجيب أمر من تكذب! ألم تعلم أن الكذب أساس الفجور كما قال صلى الله عليه وسلم: "وإن الكذب ليهدي إلى الفجور"؟ وأول ما يسري الكذب إلى اللسان فيفسده ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله، فيستحكم عليها الفساد. فبئس الكذب طريقة للوصول إلى القلوب.
ولا نجد مظهراً مساوياً للكذب في الفحش والنكارة كالغيبة والنميمة، فمضارهما على المجتمع وخيمة جداً، فالغيبة تكسب البغضاء وتورث الشحناء وتفسد على الناس علاقاتهم، وكم من مرة تجد نفسك تبغض إنساناً بغضاً شديداً وأنت لم تجالسه ولم تعرفه، وما ذاك إلا بسبب كلام سيئ سمعته عنه وأنت غير متأكد من وجوده فيه.
وكذا الحال في النميمة، فهي قاطعة لأواصر الترابط والمحبة بين المسلمين، ناهيك بما يترتب على الغيبة والنميمة من الوعيد الشديد، فلا يدخل الجنة نمّام، وأما المغتاب فيأتي يوم القيامة بجبال من الحسنات ثم ما يلبث أن تنتقل لموازين غيره ويحل مكانها جبال من السيئات إذا مانفدت حسناته ولم تنته مظالمه. فعجيب أمر المغتاب! أي لذة يجدها في أكل لحم ميت؟! وأي لذة يجدها النمّام في شحن القلوب ضد أخيه؟!
وقد تنخفض الأصوات ويبدأ الهمس بين اثنتين أو ثلاثة من الجالسات، فتتفشى في هذه الجلسة المغلقة أسرار بيوت أحكمت الأبواب عليها، فتقص إحداهن لجليستها مشكلة بينها وبين زوجها، وتتلقى بعدها التوصيات اللازمة لهدم بيتها. وليس طلب النصيحة هو الأمر الذي نحذر منه، إنما نحذر من طلبها من أي أحد كان بدون حيطة ولا حذر، فيحدث ما لا تحمد عقباه، وأحياناً تفشي أموراً خاصة بينها وبين زوجها وهي تعلم الوعيد الذي توعد به النبي صلى الله عليه وسلم من تعمل مثل ذلـك، ونعجب كيف ترضى أن تكون محل تندّر بين الأخريات بما أفضت، فينتقص منها ومن زوجها وهي تسمع، ولا يورثها ذلك إلا زيادة في سرد كل ما عندها، وهذا فعل مشين ينقص من قدرها وهي لا تعلم.
فهذه هي بعض أحوال مجالس النساء اليوم.. حوار ونقاش وكشف أستار، وهي ـ إضافة إلى ذلك ـ ميدان خصب لكسب السيئات وحرق الحسنات.
فما هو السبب الذي جعل المجتمع النسائي يصطبغ بهذه الصبغة، وتصبح هي السمة الغالبة والمهيمنة عليه؟ أهو عائد لحب النساء للثرثرة ونقل الأخبار وتتبع العورات، أم هو عائد لعدم وجود المصلح والموجه لهذه المجتمعات، أم هو عائد إلى افتقار المرأة لمعرفة حجم المسؤولية الملقاة عليها، وميلها نحو الهزل والمزاح، وبعدها عن الجدية والعمل المنتج؟
وما هي الحلول الممكنة للحد من هذه الظاهرة؟ فلنطالع ما تفضلت به "د. هياء البدراني" ـ عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام حول هذا الموضوع ـ تقول: لو أردنا أن نجمل الأسباب التي تؤدي إلى المخالفات والأخطاء التي تقع فيها النساء لاستطعنا أن نلخص ما يلي:
* ضعف (بل سوء) التربية أحياناً، حينما تنشأ البنت غير مكترثة بأعراض الناس وحرماتهم، ولم تتعلم وهي في بيت أبيها أن أعراض الناس "حفرة من حفر جهنم".
* عدم الوعي بأهمية الوقت الذي هو من عمر المؤمن، "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ".
* الجهل بالواقع القريب والبعيد، في الماضي والحاضر، فإن المسلمة الواعية تعرف واقعها القريب المحيط بها وما له من حقوق وما عليه من واجبات، كما تعرف الواقع الحاضر البعيد من حيث المكان الذي يتمثل في العالم بشكل عام والعالم الإسلامي بشكل خاص، وقضاياه التي تعنيها.. ماذا يريد منها أعداء الإسلام؟ كما أن عليها أن تحيط بالواقع البعيد فيما يتعلق بالمرأة.. نظرة العالم لها.. نظرة الإسلام لها.. كيف كانت قديما قبل الإسلام وبعده؟
* قرينات السوء، فإن القرين يسعدك ويشقيك بحسب دينه وعقله وثقافته.
* الجهل بآداب الإسلام في الحديث، ما يقال منه وما يترك.
* عدم الشعور بالمسؤولية تجاه الأمة والدين.
والنتائــــج:
ما نراه اليوم من تقلص الأوساط الطيبة الصالحة، وقلة الوعي، والجرأة من الكثيرات على التبرج وطرح تعاليم الدين جانباً، ثم حال المجتمع الذي ننعاه بمزيد من الأسى والحزن.
وسبل الإصلاح كثيرة، منها:
* ترسيخ الخوف من الله تعالى من الخوض في أعراض الناس، وبث ذلك بين النساء عن طريق دور التعليم، دور القرآن، الجلسات العائلية.
* بث الوعي الإسلامي بوضع المرأة المهم في المجتمع المسلم، عن طريق القراءة في الكتب التي عالجت ذلك.
* "اعرف عدوك" إن أعداء المرأة الذين هم أعداء الدين يريدون تدميرها، فلتكن على علم وحذر من ذلك.
* حسن اختيار الصحبة، فإن قرين السوء "إما أن يحرق ثيابك، أو أن تجد منه ريحاً خبيثة"، كما أخبر الصادق المصدوق. فكيف بمن يحلق دينك وحسناتك؟
* بث الوعي بآداب الإسلام في الحديث والمحادثة والمجالسة، بل والكلام والتعرض لآفات اللسان.
المحور الثاني:
لم يعد للوضوح والصراحة والصدق ذلك الوجود في علاقاتنا العائلية، أو حتى على مستوى الصداقات والعلاقات العامة:
يبدو أن "الرسميات" و"المجاملات" أصبحت طابعاً وسمة واضحة وطاغية على كثير من مجتمعاتنا، فما عاد للوضوح والصراحة وحسن المعاملة الحضور السائد فيها، وهي الأخلاق التي كانت في أوقات مضى المسيّر لتلك العلاقات المدنية، ودعوى التمدن هي المتهم الوحيد في زوال السمة الرائعة عن مجتمعاتنا؛ إذ يخلط كثيرون بين حسن التعامل ودماثة الخلق وآداب الكلام وبين الكذب والتزييف والتستر خلف الأقنعة، فلم نعد نميز بين الأحاسيس والمشاعر الصادقة وبين المراوغة والنفاق، ما عاد حب الخير للناس ورجاء ثواب الله في حسن المعشر هدف الكثير منـــا.
فالأخلاق كما عرفها العلماء: هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة من غير حاجة إلى رويّة وفكر، فإن كانت الأفعال حسنة جميلة سميت خلقاً حسناً، وإن كانت سيئة سميت خلقاً سيئاً. وبناءً على هذا فإن الأخلاق قسمان، منها ما جبل عليه الإنسان، وقسم مكتسب يتربى عليه الإنسان. والإسلام دعا إلى الأخلاق، وما دار محور من محاور الإسلام إلا ودارت الأخلاق معه وربط بينها وبين الإيمان بالله عز وجل، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكمل الناس إيماناً أحسنهم خلقاً" (صحيح الجامع:1230).
وسئل الرسول عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: "تقوى الله وحسن الخلق". وبما أن معاشرة الناس والتعامل معهم هو الميدان الذي تتضح فيه أهمية الأخلاق وكونها هي الأساس لاستمرار العلاقات ودوامها.. تقدمنا بسؤال لـ "د. وفاء العساف" ـ عضو هيئة تدريس في جامعة الإمام ـ عن القواعد والأسس التي يجب أن تبنى عليها العلاقات الإنسانية؛ كي ننطلق منها إلى مرضاة الله تعالى وجنته ... فقالت:
بالنسبة للتعامل مع الآخرين فإن الله تعالى كما أنعم علينا بنعم مادية محسوسة كثيرة كالسمع والبصر والكلام وغيرها كثير فإنه سبحانه أنعم علينا بنعم مرتبطة بالقلوب، مرتبطة بالنوايا والخفايا، ومن هذه النعم: نعمة الأخوة أو المحبة في الله، نعمة التآلف والتقارب بين الناس، وبهذه النعمة يذكرنا الله عز وجل بقـوله سبحانه: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} (آل عمران:102).
وهذا التآلف والتعامل مع الناس وضع الله عز وجل له قواعد وأسساً وبين لنا الحقوق والآداب التي تحفظ هذه العلاقات، وجعل الالتزام بها عبادة نتعبد بها وقربة إلى الله تعالى، فمن هذه القواعد:
* أن تكون هذه الأخوة أو العلاقة أخوة لله وفي الله، فلا بد أن ترتبط بهدف أخروي، فتكون خالصة لوجه الله تعالى، جاء في الحديث الذي رواه مسلم: "أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أخاً لي في هذه القرية، قال الملك: فإني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه".
* أن تكون هذه الأخوة مقرونة بالتقوى فـ"لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي".
* أن تكون هذه الأخوة ملتزمة المنهج الإسلامي، وقائمة على النصح لله ولرسوله، فلا كذب ولا نفاق ولا نميمة ولا غيبة ولا سرقة. والنصيحة علامة الحب الخالص إذا كانت بالأسلوب المرضي. قال الحارث المحاسبي "اعلم أن من نصحك فقد أحبك، ومن داهنك فقد غشك، ومن لم يقبل نصحك فليسبأخ لك".
* أن تكون هذه الأخوة مشاركة في السراء والضراء فتفرح لفرحه وتحزن لحزنه " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (رواه
وتواصل "د. وفاء العساف" فتقول: وحتى تستمر هذه العلاقة بين الناس وتؤتي المؤاخاة ثمارها فلابد من حفظ الحقوق الخاصة والعامة.
ومن هذه الحقوق:
* السلام عليه إذا لقيه، وتشميته إذا عطس، وعيادته إذا مرض، وتعزيته، واتباع جنازته.
* النصح له إذا استنصحه، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها.
* أن ينصره ولا يخذله في المواطن التي يحتاج نصرته.
* أن يتواضع له ولا يتكبر عليه، وأن لا يهجره أكثر من ثلاثة أيام، ولا يكذب عليه، ولا يغتابه ولا يحقره ولا يعيبه ولا يحسده، ولا يظن به سوءاً، ولا يغشه، وأن يبذل له المعروف، ويكف عنه الأذى.
أما عن قطع الأرحام وهجر الأقارب، وما ينتج عن ذلك من خلافات كثيرة وفجوات في المجتمع عظيمة، فقد أشارت "د. وفاء" إلى ذلك بقولها: تلك الحقوق والواجبات في حق عامة الناس، فكيف بالأقارب والأرحام الذين قال الله تعالى فيهم: {واتقوا الله الذي تساءلون به الأرحام} (النساء:1) وعد قطع الرحم من الفساد في الأرض، فقال سبحانه: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} (محمد:22).
ولا شك في أن صلتهم آكد، وصلتهم أعظم، فعلى المسلم أن يلتزم لأقاربه وذوي رحمه بكل الآداب التي هي واجبة في حق غيرهم، وأن يصلهم امتثالاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه وصلها" (صحيح الجامع:5385e).
إضـــــاءة:
وبعد.. فما السبب في سلوك كل تلك الطرق الملتوية من اتباع الهوى وإشباع الرغبات الجامحة؟ إنه ـ بلا ريب ـ الوصول إلى السعادة. إن السعادة الحقيقية في الاستقامة، وأصل الاستقامة يكون في القلب، فمتى استقام استقامت بقية الأعضاء.
أخرج مسلم في صحيحه أن عبدالله الثقفي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم – أن يقول له قولاً في الإسلام لا يسأل عنه أحداً غيره، فقال: " قل آمنت بالله ثم استقم"(صحيح الجامع:4395).
ثم لنتأمل معاً هذا الحديث (الذي رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وغيرهم عن النواس بن سمعان) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، على جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس ادخلوا جميعاً ولا تتعوجوا. وداعٍ يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله تعالى، والداع من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على كل صراط كتاب الله".
قال القرطبي: "فأمر باتباع طريقه الذي بينه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وشرعه، ونهايته الجنة. وتشعبت منه الطرق، فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به على النار".
فلنحذر كل الحذر أن تزل أقدامنا عن طريق الاستقامة بعد أن أبصرته وسلكته، ففي النهاية بإذن الله تعالى ـ جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.