بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
حرص السلف على تعلم اللغة العربية
كان سلف الأمة الأخيار, يرون أن اللحن في اللغة يحتم الاستغفار والإنكار! فلا يقرونه فيهم, بل يضربون عليه أبنائهم.
ذكر الإمام السيوطي رحمه الله: أن رجلاً لحنَ بحضرته صلى الله عليه وسلم فقال: (أرشدوا أخاكم فقد ضلّ). وروي من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا من قريش ونشأت في بني سعدٍ فأنَّى لي اللحن!). وهذا أبو بكر الصديق يشدد النكير على نفسه إن أخطأ, وذلك حين يقول: "لأن أقرأ فأُسقط أحب إليّ من أن أقرأ فألحن".اهـ [انظر المزهر للسيوطي 2/199]
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: والله لخطؤكم في لسانكم أشد عليَّ من خطئكم في رميكم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (رحم الله امرءاً أصلح من لسانه). [الأضداد لابن الأنباري ص242]
وروى الخطيب البغدادي أن علياً وابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهم- كانوا يضربون أبناءهم على اللحن . [1]
وقال محمد بن الحسن: ترك أبي ثلاثين ألف درهم, فأنفقت خمسة عشر ألفاً على النحو والشعر, وخمسة عشر ألف على الحديث والفقه.اهـ [نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة 5/185]
ثانيا: النهي عن التكلم بلغة أهل الأعاجم:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فإنه يورث النفاق) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: رواه السلفي بإسناد معروف .. وهذا يشبه كلام عمر بن الخطاب, وأما رفعه فموضع تبين. اهـ [الاقتضاء ص177]
و عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لا تعلموا رطانة الأعاجم". اهـ [ أخرجه البيهقي, وقال شيخ الإسلام: بإسناد صحيح. انظر الاقتضاء ص172]
وعن عطاء بن يسار قال: "قال عمر: إياكم ورطانة الأعاجم". اهـ [انظر الاقتضاء ص172]
وعن عطاء أيضاً قال : "لا تعلموا رطانة الأعاجم".اهـ [ أخرجه ابن أبي شيبة ]
وعن داود بن أبي هند أن محمد بن سعد بن أبي وقاص سمع قوماً يتكلمون بالفارسية فقال: "ما بال المجوسية بعد الحنفية".اهـ [ أخرجه ابن أبي شيبة ]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ثنايا إنكاره على بعض أهل زمانه: "الوجه الثالث" : أن هذا الكلام الموزون كلام فاسد مفرداً أو مركباً ؛ لأنهم غيروا فيه كلام العرب, وبدلوه؛ بقولهم: ما عوا وبدوا وعدوا. وأمثال ذلك مما تمجه القلوب والأسماع, وتنفر عنه العقول والطباع.
وأما "مركباته" فإنه ليس من أوزان العرب؛ ولا هو من جنس الشعر ولا من أبحره الستة عشر, ولا من جنس الأسجاع والرسائل والخطب.
ومعلوم أن "تعلم العربية , وتعليم العربية" فرض على الكفاية؛ وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن. فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي, ونصلح الألسن المائلة عنه, فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة, والاقتداء بالعرب في خطابها. فلو ترك الناس على لحنهم كان نقصاً وعيباً , فكيف إذا جاء قوم إلى الألسنة العربية المستقيمة, والأوزان القويمة: فأفسدوها بمثل هذه المفردات والأوزان المفسدة للسان, الناقلة عن العربية العرباء إلى أنواع الهذيان, الذي لا يهذي به إلا قوم من الأعاجم الطماطم الصميان؟!!... أهـ [ مجموع الفتاوى 32/252-255 ]
وقال أيضاً: "وهذا عمر نهى عن تعلم لسانهم .. [ الاقتضاء ص172 ] إلى أن قال: وأما الرطانة, وتسمية شهورهم بالأسماء العجمية, فقال أبو محمد الكرماني –المسمى بحرب-: "باب تسمية الشهور بالفارسية" قلت لأحمد: فإن للفرس أياماً وشهوراً, يسمونها بأسماء لا تُعرف, فكره ذلك أشد الكراهة. وروى فيه عن مجاهد حديثاً أنه كره أن يقال: آذرماه, وذي ماه. قلت: فإن كان اسم الرجل أسمّيه به؟ فكرهه. [الاقتضاء ص174] ثم قال عن الإمام أحمد: كراهته أن يتعود الرجل النطق بغير العربية, فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله, واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون, ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون في الأدعية, التي في الصلاة والذكر, أن يُدعى الله أو يذكر بغير العربية" .
وقال الشافعي فيما رواه السلفي بإسناد معروف إلى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: سمّى الله الطالبين من فضله في الشراء والبيع تجاراً, ولم تزل العرب تسميهم التجار, ثم سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمّى الله به من التجارة بلسان العرب, والسماسرة اسم من أسماء العجم, فلا نحب أن يسمى رجل يعرف العربية تاجراً إلا تاجراً, ولا ينطق بالعربية فيسمي شيئاً بأعجمية, وذلك أن اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب, فأنزل به كتابه العزيز وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم, ولهذا نقول: ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها, لأنه اللسان الأَوْلى بأن يكون مرغوباً فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بأعجمية.
ثالثا: التكلم بغير العربية من خوارم المروءة:
روي عن أنس مرفوعاً: (من تكلم بالفارسية زادت في خبثه ونقصت من مروءته) [أخرجه الحاكم في المستدرك 4/88]
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما تعلم أحدٌ بالفارسية إلا خبَّ أو خبث, ولا خبُث أو خبَّ إلا ذهبت مروءته. اهـ [رواه ابن أبي شيبة في المصنف 9/11, المروءة لأبي بكر المرزبان ص68]
وعنه أيضاً: تعلموا العربيةَ فإنها تزيدُ في المروءة. اهـ [عيون الأخبار 3/296, المروءة لأبي بكر المرزبان ص78]
وعنه أيضاً: تعلموا العربية فإنها تزيد العقلَ وتزيدُ في المروءة. اهـ [شعب الإيمان 257, المروءة لأبي بكر المرزبان ص81]
وقيل لعمرو بن العاص رضي الله عنه: ما المروءة؟ قال: أدبٌ بارع, ولسان قاطع. اهـ [أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 24/337]
وقال الإمام الزهري رحمه الله: ما أحدث الناس مروءةً أعجب إليَّ من الفصاحة. اهـ [الحلية 3/364, المروءة لأبي بكر المرزبان ص43]
وعنه أيضاً قال: الفصاحة من المروءة. اهـ [بهجة المجالس 2/1/643]
وعن ابن المبارك قال: إقامة اللسانِ والسدادُ المروءةُ العظمى. اهـ [المروءة لأبي بكر المرزبان ص70]
وعن هشام بن عروة قال: خرج علينا أبي ومعلِّمنا يُعلِّمنا النحو, فقال له أبي: ما أحدثَ الناسُ مروءةً أفضلُ, أو أعجبَ إليَّ من النحو. اهـ [المروءة لأبي بكر المرزبان ص72 ]
وقال العتبي: ثلاثة تحكم لهم بالمروءة حتى يُعرفوا: رجلٌ رأيته راكباً, أو سمعته يُعرِبُ في كلامه, أو شممتَ منه رائحة طيبة. وثلاثةٌ تحكم عليهم بالمهانة حتى يُعرفوا: رجلٌ شممت من رائحة نبيذٍ في محفل, أو سمعته يتكلم في مصرٍ من أمصارِ العرب بالفارسية, أو رأيته على ظهر طريقٍ ينازع القَدَر. اهـ [عيون الأخبار 3/296, المروءة لأبي بكر المرزبان ص62]
وقال الأصمعي: قال بعض الحكماء: ثلاثة يُحكم لهم بالمروءة حتى يتكلموا: رجلٌ رأيته راكباً, أو شممت منه رائحة طيبة, أو سمعته يُعْرب, وثلاثة يُحكم لهم بالدناءة حتى يُعرفوا: رجل يتكلم بالفارسية في مصرٍ عربي, ورجل رأيته على طريق ينازع في القدر, ورجل شممت منه رائحة نبيذ.اهـ [المجالسة لابن قتيبة 3/188]
رابعا: التكلم بلغة الأعاجم نوع من التشبه بهمن:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية, التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله, أو لأهل الدار, أو للرجل مع صاحبه, أو لأهل السوق, أو للأمراء, أو لأهل الديوان, أو لأهل الفقه, فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم, وهو مكروه كما تقدم. ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر, ولغة أهلهما رومية, وأرض العراق وخرسان ولغة أهلهما فارسية. وأهل المغرب ولغة أهلها بربرية عوَّدوا أهل هذه البلاد العربية, حتى غلبت على أهل هذه الأمصار: مسلمهم وكافرهم, وهكذا كانت خرسان قديماً.
ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة , واعتادوا الخطاب بالفارسية حتى غلبت عليهم, وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم, ولا ريب أن هذا مكروه. وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية. حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور فيظهر شعار الإسلام وأهله, ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف. بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى, فإنه يصعب.. [الاقتضاء ص178-179]
وقال الشيخ العلامة صالح بن إبراهيم البليهي رحمه الله: لغتنا العربية كاملة فلا تحتاج إلى تكميل ولا تطعيم... فتعلم اللغات الأجنبية من غير ضرورة وحاجة ماسة لا يجوز. لعموم ما روي عنه صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم) وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تشبه بغيرنا). وقال عمر رضي الله عنه: لا تعلموا رطانة الأعاجم.اهـ [السلسبيل في معرفة الدليل 3/883]
وقال الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله: وفي الأدب مع الكفار: النهي عن التشبه بهم في ألفاظهم.. إلى أن قال: وفي مجال التشبه: النهي عن التشبه بالمشركين في الألفاظ.اهـ [ معجم المناهي اللفظية ص39 ]
وقال الشيخ العلامة عبد الكريم بن صالح الحميد حفظه الله: كذلك فإن تعلك لغة الكفار تشبهاً بهم باللسان, وقد نهانا صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم وقال: (من تشبه بقوم فهو منهم).اهـ [الوعيد على أهل الغلو والتشديد ص21]
خامسا: الضعف في اللغة من أسباب الضلال:
قال أبو عبيد :سمعت الأصمعي يقول :سمعت الخليل بن أحمد يقول: سمعت أيوب السختيا ني يقول: عامة من تزندق من أهل العراق لجهلهم بالعربية.اهـ [1]
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: ما جهل الناسُ ولا اختلفوا إلا لتركِهم لسانَ العرب, وميلِهم إلى لسان أرسطاطاليس. اهـ [سير أعلام النبلاء 10/74]
وقال ابن جني: إن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها وحاد عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه واستخف حلمه ضعفُه في هذه اللغة الكريمة الشريفة التي خوطب الكافة بها .اهـ
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: وقد قال صلى الله عليه وسلم : (حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)، لأنهم إذا لم يكن لهم لسان عربي يرجعون إليه في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم رجع إلى فهمه الأعجمي وعقله المجرد عن التمسك بدليل يضل عن الجادة ، قال الحسن البصري رحمه الله: "أهلكتهم العجمة يتأولونه على غير تأويله " .اهـ
وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد لما ناظره في مسألة خلود أهل الكبائر في النار، و احتج ابن عبيد أن هذا وعد الله والله لا يخلف وعده -يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر بالنار والخلود فيها- فقال ابن العلاء: من العجمة أُتيتَ، هذا وعيد لا وعد، قال الشاعر :
وإني وإن أوعدته أو وعدته *** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
ومن أمثلة التفاسير الخاطئة المبنية على الجهل بالعربية قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع حرائر مستدلاً بقوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) فالمجموع تسع نسوة، قال الشاطبي: ولم يشعر بمعنى فُعال ومفعل وأن معنى الآية: فانكحوا إن شئتم اثنتين اثنتين أو ثلاثاً ثلاثاً أو أربعاً أربعاً .
ومن ذلك قول من قال: إن المحرم من الخنزير إنما هو اللحم، وأما الشحم فحلال لأن القرآن إنما حرم اللحم دون الشحم. ولو عرف أن اللحم يطلق على الشحم بخلاف الشحم فلا يطلق على اللحم لما قال ما قال ..
ومن ذلك قول من قال في حديث: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر، يقلب الليل والنهار), بأن فيه مذهب الدهرية. وهذا جهل، فإن المعنى لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم مصائب ولا تنسبوها إليه فإن الله هو الذي أصابكم فإنكم إذا سببتم الدهر وقع السب على الفاعل لا على الدهر .
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: فقد ظهر بهذه الأمثلة كيف يقع الخطأ في العربية في كلام الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه ، والصحابة رضوان الله عليهم براء من ذلك لأنهم عرب لم يحتاجوا في فهم كلام الله تعالى إلى أدوات ولا تعلم، ثم من جاء بعدهم ممن هو ليس بعربي اللسان تكلف ذلك حتى علمه ..اهـ
أحاديث ضعيفة في تعلم لغة الأعاجم
أولاً: حديث: (من تعلم لغة قوم أمن مكرهم):
قال الشيخ العلامة صالح بن إبراهيم البليهي رحمه الله: أما ما يتشدق به البعض رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من تعلم لغة قوم أمن مكرهم) فهو حديث باطل لا أصل له.اهـ [السلسبيل في معرفة الدليل 3/883]
وقال شيخنا سليمان بن ناصر العلوان فك الله أسره في جواب له عن هذا الحديث: لا أعلم هذا حديثاً ولا أظن له أصلاً, وقد كره أهل العلم تعلم رطانة الأعاجم والمخاطبة بها بدون حاجة وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال ( لا تعلموا رطانة الأعاجم ) رواه عبد الرزاق في المصنف ( 1609 ) والبيهقي في السنن ( 9 / 234).اهـ