قال تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن".
في هذه الآية دلالة محكمة على وجوب الحجاب الكامل على سائر المؤمنات، وبيان ذلك من وجوه:
الوجه الأول: الأمر واحد للجميع، فالصفة واحدة.
في الآية مقدمة ونتيجة:
المقدمة: أن الأزواج والبنات ونساء المؤمنين أمرن بأمر واحد، بلا فرق، هو: إدناء الجلباب.
النتيجة: أن صفة الإدناء في جميعهن واحدة.
فالجمع إذا خوطب بشيء، فالأصل أن فحوى الخطاب واحد في حق الجميع، ما لم يرد استثناء. وهنا لا استثناء في الآية، فيبقى الخطاب واحدا، فبالنظر إلى دلالة الآية: فإنها صريحة الدلالة في تساوي الأزواج والبنات ونساء المؤمنين، في صفة الإدناء، بغير فرق بين أحد.
لكن السؤال الوارد هنا: ما صفة الإدناء؟.
والجواب: أن إحدى الفئات التي ذكرت في الآية وهم: الأزواج. قد عرف صفة إدنائها بقوله تعالى: "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب"، وبالإجماع الآية تدل على الحجاب الكامل.
وفقا لهذين الأمرين نخرج بنتيجة هي: أن صفة الإدناء في حق الجميع هو: الحجاب الكامل.
ويمكن تصوير المسألة بمقدمتين ونتيجة:
المقدمة الأولى: الجميع: الأزواج، والبنات، ونساء المؤمنين. خوطبن بخطاب واحد هو: إدناء الجلباب.
المقدمة الثانية: أن صفة الإدناء في حق بعض هذا الجميع (الأزواج) هو الحجاب الكامل بالإجماع.
النتيجة إذن: صفة الإدناء في حق الجميع واحد، هو: الحجاب الكامل.
ففي الآية نفسها قرينة واضحة على التغطية، قال الشيخ الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان 6/586:
"فإن قيل: لفظ الآية الكريمة، وهو قوله تعالى: "يدنين عليهن من جلابيبهن" لا يستلزم معناه ستر الوجه لغة، ولم يرد نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع على استلزامه، وقول بعض المفسرين: إنه يستلزمه. معارض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه. وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.
فالجواب: أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها: "يدنين عليهن من جلابيبهن"، يدخل في معناه ستر وجوههن، بإدناء جلابيبهن عليها، والقرينة المذكورة: هي قوله تعالى: "قل لأزواجك"، ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن، لا نزاع فيه بين المسلمين. فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين، يدل على وجوب ستر الوجوه، بإدناء الجلابيب، كما ترى".
فإن نازع منازع فقال: كلا، لا نسلم بأن فحوى الخطاب في حق الجميع واحد هنا، فالأمر واحد، هو إدناء الجلباب، لكن صفة الإدناء يختلف، فالأزواج عليهن الحجاب الكامل، والمؤمنات لهن كشف الوجه.
وهذا مثل قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون"، فالجميع رجس محرم، لكن الصفة تختلف، فالخمر حرمته في شربه، والميسر في اللعب به، والأنصاب في التقرب إليها، والأزلام في الاستقسام بها، وهكذا فالتحريم واحد، وصوره مختلفة.
فالجواب من أوجه:
الأول: أن هذا القول يتضمن الإقرار بدلالة الإدناء على التغطية؛ وإن كان يخصه بالأزواج، وبهذا ينتقض قولهم الأول: أن الإدناء في الآية لا يدل على التغطية بوجه.
الثاني: أن أصحاب هذا القول ترددوا في تفسير الإدناء بين التغطية والكشف، وبالتالي لن تكون دلالة الآية، عندهم، قاطعة على الكشف، وهذا يلزمهم، أما نحن فنقول: الآية لا تدل إلا على التغطية. ومن ثم دلالتها عندنا قاطعة على التغطية، وينتج عن هذا: أنه ليس لهم القول بأن الآية لا تدل على التغطية.
الثالث: قد علمنا بطلان تخصيص الأزواج بالحجاب الكامل، كما سبق بيانه في آية الحجاب. وإذا بطل التخصيص رجع فحوى الخطاب واحدا في حق الجميع، دون استثناء أو اختلاف.
الرابع: ما قولهم في بنات النبي صلى الله عليه وسلم، هل الإدناء في حقهن بالكشف أم بالتغطية؟.. إن قالوا: التغطية. لزمهم ذلك في سائر النساء، إذ لا موجب للتفريق بين البنات وسائر النساء. وهم لا يقولون بالكشف، لأنهم يساوونهن بالأزواج رضوان الله عليهن.
لكن إن سلموا بأن الخطاب واحد للجميع، لزمهم أن يقروا بأن الصفة واحدة للجميع أيضا.
الوجه الثاني: تفسير الإدناء بالكشف يلزم منه جواز كشف الأزواج وجوههن.
الإدناء، عموما، إما أن يكون بتغطية الوجه، وإما بدونه.
- فإن فسر بكشف الوجه، لزم منه كشف الأزواج وجوههن، وهذا باطل، لوجوب التغطية في حقهن.
- وإن فسر بتغطية الوجه لم يلزم منه أية لوازم باطلة، بل يكون موافقا لأمر الله تعالى الأزواج بتغطية وجوههن في الآية الأخرى، وليس في تغطية البنات ونساء المؤمنين وجوههن ما ينكر أو يعترض عليه.
فإن قيل: الصفة متفاوتة، فالأزواج عليهن التغطية، وسائر النساء ليس عليهن، والإدناء يتضمن المعنيين.
فالجواب: أن هذا الإيراد وجوابه تقدم في الوجه السابق.
الوجه الثالث: أن صفة الإدناء لغة هو التغطية
قال تعالى: "يدنين عليهن من جلابيبهن"، فعل الإدناء عدي بـ "على"، وهو يستعمل لما يكون من أعلى إلى أسفل، فدلالة الآية: أن الإدناء يكون من فوق الرأس. وحينئذ ينزل بعض الجلباب على الوجه. فهذا شاهد على أن الإدناء هنا متضمن تغطية الوجه، بنزول بعض الجلباب عليه.
قال الزمخشري في تفسيره الكشاف [3/274]:
" ومعنى: "يدنين عليهن من جلابيبهن"، يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك".
وقال الإمام النحوي المفسر أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط [7/240]:
" (من) في (جلابيبهن) للتبعيض، و(عليهن) شامل لجميع أجسادهن، أو (عليهن) على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه".
فهذان إمامان في اللغة، قد فسرا الإدناء بإرخاء الجلباب على الوجه.
وقال النسفي في تفسيره [3/315]: "و (من) للتبعيض؛ أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها".
الوجه الرابع: سبب النزول يشير إلى أن المعنى وجوب التغطية.
قال ابن جرير: "حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما- في قوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن"، إلى قوله: "وكان الله غفورا رحيما"، قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله النساء أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب: أن تقنّع وتشد على جبينها".
وساق سنده إلى قتادة ومجاهد وأبي صالح بمثل هذا المعنى والسبب في نزول الآية.[التفسير 19/182-183]
فقد كان من علامة الحرة منذ الجاهلية تغطية وجهها، بخلاف الأمة فكانت تكشف وجهها، ولا يعني ذلك أن كل الحرائر كن يغطين، بل كان مشهورا عنهن، قال النابغة الذبياني، وهو من شعراء الجاهلية، يصف المتجردة زوجة النعمان، لما فجأها بالدخول، فسقط خمارها، فعمدت، فغطت وجهها بذراعيها، وكانت ضخمة، فاستترت بهما:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه*** فتناولته واتقتنا باليد (1)
فلما حصل الأذى من الفساق والمنافقين حين خروج النساء ليلا، أمرهن الله تعالى أن يتشبهن بالحرائر في تغطية الوجه، حتى يعرفن بذلك فلا يتعرضن للأذى.
قال الإمام النحوي المفسر أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط [7/240]:
" (من) في (جلابيبهن) للتبعيض، و(عليهن) شامل لجميع أجسادهن، أو (عليهن) على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه".
وروى ابن سعد في طبقاته [8/176،177] عن محمد بن كعب القرظي قال: "كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المسلمين ويؤذيهن، فإذا قيل له، قال: (كنت أحسبها أمة)، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء، ويدنين عليهن من جلابيبهن، تخمر وجهها إلا إحدى عينيها، يقول: "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين" (2).
وهذا المعنى تتابع المفسرون على حكايته في تفسير هذه الآية، فكلهم ذهبوا في قوله تعالى: "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين"؛ أي يعرفن أنهن حرائر، بتغطية وجوههن وأجسادهن بالجلباب، حتى يتميزن عن الإماء، وبهذا يعرف أن الأمة لا يجب عليها حجاب وجهها، فالفرق بينهما ثابت بهذه الآية، وتظاهر المفسرين، من الصحابة والتابعين، على هذا التفريق، كما أنه قد ثبت في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي بن أخطب، قال الصحابة: "إن حجبها فهي امرأته، وإلا فأم ولد". رواه البخاري ومسلم (3).
الوجه الخامس: تفسير الجلباب بتغطية الوجه ورد عن جمع من الصحابة والسلف.
وبهذا المعنى جاءت الأقوال عن السلف، فقد روى ابن جرير في تفسيره [19/181]، فقال:
- "حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن": أمر الله نساء المؤمنين، إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن، من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة".
- وروى أيضا فقال: "حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة في قوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن". فلبسها عندنا ابن عون، قال: ولبسها عندنا محمد، قال محمد: ولبسها عندي عبيدة. قال ابن عون: بردائه، فتقنع، فغطى أنفه وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه، أو على الحاجب".
- وساق الأثر نفسه من طريق يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، قال سألت عبيدة عن قوله: الآية. قال: "فقال بثوبه، فغطى رأسه ووجهه، وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه".[التفسير 19/181-182]
- وفي الدر المنثور [5/415]: "وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين رضي الله عنه قال: سألت عبيدة رضي الله عنه عن هذه الآية: "يدنين عليهن من جلابيبهن" فرفع ملحفة كانت عليه، فقنع بها، وغطى رأسه كله، حتى بلغ الحاجبين، وغطى وجهه، وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر، مما يلي العين".
فهذا قول جمع من السلف في صفة الإدناء: ابن عباس، وعبيدة السلماني، ومحمد بن سيرين، وابن عون، وابن علية، وغيرهم.
الوجه السادس: أقوال المفسرين في تفسير الإدناء بتغطية الوجه.
تظاهر المفسرون وتتابعوا على تفسير الإدناء في الآية بتغطية الوجوه والأبدان، ولم يمر بي مفسر قال إنها تدل على الكشف، غاية ما هنالك بعض الأقوال أن من صفته: ستر معظم الوجه. وهذه أقوال هؤلاء الأئمة:
(1) ابن جرير [19/181] قال: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين، لا يتشبهن بالإماء في لباسهن، إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن، لئلا يعرضن لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر، بأذى من القول". وهذا النص صريح في صفة إدناء نساء المؤمنين، وأنه يعم تغطية الوجه.
(2) قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن في تفسير الآية [5/245]: "في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن".
(3) قال: إلكيا الهراس في تفسيره [انظر: عودة الحجاب 3/184]: "الجلباب هو الرداء، فأمرهن بتغطية وجوههن ورؤوسهن، ولم يوجب ذلك على الإماء".
(4) قال الزمخشري في تفسيره الكشاف [3/274]: " ومعنى: "يدنين عليهن من جلابيبهن"، يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن. يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدنى ثوبك على وجهك. وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية، متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار، لافصل بين الحرة والأمة، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون إذا خرجن بالليل، إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان، للإماء، وربما تعرضوا للحرة، بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة. فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف، وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن، ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع، وذلك قوله: "ذلك أدنى أن يعرفن"؛ أي أولى وأجدر بأن يعرفن، فلا يتعرض لهن، ولايلقين ما يكرهن.
فإن قلت ما معنى "من" في: "من جلابيبهن"؟، قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين:
أحدهما: أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار، كالأمة والماهنة، ولها جلبابان فصاعدا في بيتها.
والثاني: أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها، تتقنع حتى تتميز من الأمة، وعن ابن سيرين: (سألت عبيدة السلماني عن ذلك، فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها)، وعن السدي: (أن تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين)، وعن الكسائي: (يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن) أراد بالانضمام معنى الإدناء".
(5) قال البغوي في تفسيره [3/469]: "قال ابن عباس وأبو عبيدة: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينا واحدة، ليعلم أنهن حرائر"، ذكر هذا وما ذكر غيره.
(6) قال القرطبي في تفسيره [14/243]: "لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن، كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن، إذا أردن الخروج إلى حوائجهن".
(7) قال البيضاوي في تفسيره أنوار التنزيل [4/386]: "يدنين عليهن من جلابيبهن" يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن، إذا برزن لحاجة.
(
قال الإمام النسفي في تفسيره مدارك التنزيل [3/315]: "يدنيهن عليهن من جلابيبهن" يرخينها عليهن، ويغطين وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زال الثوب عن وجه المرأة: أدنى ثوبك على وجهك. و (من) للتبعيض، أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها، تتقنع حتى تتميز من الأمة.
(9) قال ابن جزي الكلبي في تفسيره التسهيل لعلوم التنزيل [534]: "كان نساء العرب يكشفن وجوههن، كما تفعل الإماء، وكان ذلك داعيا إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليسترن بذلك وجوههن، ويفهم الفرق بين الحرائر والإماء، والجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، وقيل: هو الرداء. وصورة إدنائه عند ابن عباس: أن تلويه على وجهها، حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها. وقيل: أن تلويه حتى لا ينظر إلا عيناها. وقيل: أن تغطي نصف وجهها".
(10) قال ابن تيمية[الفتاوى 22/110]: "قبل أن تنزل آية الحجاب، كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذا ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها، لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب، بقوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن" حجب النساء عن الرجال".
(11) وذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية، في تفسيره [6/471] أثر علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وأثر عبيدة السلماني، كما أورد قول عكرمة: "تغطي ثغرة نحرها بجلبابها، تدنيه عليها".
(12) قال أبو حيان في تفسيره [7/240]: " وقال أبو عبيدة السلماني حين سئل عن ذلك، فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها. وقال السدي: (تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين). انتهى، وكذا عادة بلاد الأندلس لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة. وقال الكسائي: يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن. أراد بالانضمام معنى الإدناء. وقال ابن عباس وقتادة: وذلك أن تلويه فوق الجبين، وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه... و "من" في "جلابيبهن" للتبعيض، و "عليهن" شامل لجميع أجسادهن، أو "عليهن" على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه".
(13) قال أبو السعود في تفسيره إرشاد العقل السليم 7/115]: " الجلباب ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها، وتبقي منه ما أرسله على صدرها، وقيل: هي الملحفة، وكل ما يستر به؛ أي يغطين بها وجوههن وأبدانهن، إذا برزن لداعية من الدواعي، و"من" للتبعيض، لما مر من أن المعهود التلفع ببعضها، وإرخاء بعضها".
(14) قال: السيوطي: "هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن" [عون المعبود شرح سنن أبي داود 12/158، اللباس، باب قول الله تعالى: "يدنين عليهن.."]
(15) قال الألوسي في روح المعاني [11/264]: "الإدناء: التقريب. يقال: أدناني. أي قربني، وضمن معنى الإرخاء أو السدل، ولذا عدّي بـ (على)، على ما يظهر لي، ولعل نكتة التضمين: الإشارة إلى أن المطلوب تستر، يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين، فتأمل. ونقل أبو حيان عن الكسائي أنه قال: أي يتقنعن بملاحفهن، منضمة عليهن، ثم قال: أراد بالانضمام معنى الإدناء، وفي الكشاف معنى "يدنين عليهن" يرخين عليهن، يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة، أدني ثوبك على وجهك. وفسر ذلك سعيد بن جبير بيسدلن عليهن، وعندي أن كل ذلك بيان لحاصل المعنى، والظاهر أن المراد بعليهن على جميع أجسادهن، وقيل: على رؤوسهن، أو على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه". ثم أورد أثر عبيدة السلماني، وأثر ابن أبي طلحة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في إبداء عين واحدة، والأثر الآخر عنه وقتادة في ليّ الحجاب فوق الجبين وشده ثم عطفه على الأنف، وإن ظهرت العينان، مع ستر الصدر ومعظم الوجه، ثم ذكر أثر أم سلمة – رضي الله عنها- عند عبد الرزاق وعائشة – رضي الله عنها -عند ابن مردوية في صنيع نساء الأنصار بعد نزول الآية، ثم قال:"ومن للتبعيض، ويحتمل ذلك على ما في الكشاف لوجهين:
أحدهما: أن يكون المراد بالبعض واحدا من الجلابيب، وإدناء ذلك عليهن، أن يلبسنه على البدن كله.
وثانيهما: أن يكون المراد بالبعض جزءا منه، وإدناء ذلك عليهن: أن يتقنعن، فيسترن الرأس والوجه بجزء من الجلباب، مع إرخاء الباقي على البدن".
(16) قال الشوكاني في فتح القدير [4/304]: "من للتبعيض، والجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، قال الجوهري: الجلباب: الملحفة. وقيل: القناع0 وقيل: هو ثوب يستر جميع بدن المرأة. كما ثبت في الصحيح من حديث أم عطية – رضي الله عنها - أنها قالت: (يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب، فقال: لتلبسها أختها من جلبابها)، قال الواحدي: قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عينا واحدة، فيعلم أنهن حرائر، فلا يعرض لهن بأذى. وقال الحسن: تغطي نصف وجهها. وقال قتادة: تلويه فوق الجبين، وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه".
(17) قال القاسمي في تفسيره محاسن التأويل [انظر: عودة الحجاب 3/201]: "أمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع".
(18) قال الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان [6/586]: "ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها قوله تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن".
(19) جاء في تفسير الجلالين [560]: "أي يرخين بعضها على الوجوه، إذا خرجن لحاجتهن، إلا عينا واحدة، "ذلك أدنى"؛ أقرب إلى أن يعرفن بأنهن حرائر، "فلا يؤذين"، بالتعرض لهن".
- وفي عون المعبود شرح سنن أبي داود [12/158، اللباس، باب في قوله الله تعالى: "يدنين عليهن من جلابيبهن" : "أي يرخين بعضها على الوجوه، إذا خرجن لحاجتهن، إلا عينا واحدة، كذا في الجلالين. وقال في جامع البيان: الجلباب: رداء فوق الخمار، تستر من فوق إلى أسفل؛ يعني يرخينها عليهن، ويغطين وجوههن وأبدانهن".
- وإلى هذا القول ذهب الشيخ أبو الأعلى المودودي، والجزائري، ، والدكتور محمد محمود جحازي، والشيخ عبد العزيز بن خلف، وعبد الله الأنصاري وغيرهم. [انظر: عودة الحجاب: 3/200-211]
هؤلاء هم أئمة التفسير المشهورون، لم نر فيهم من فسر الإدناء بكشف الوجه بلفظ صريح، بل جلهم تتابعوا على التصريح بالتغطية، كما رأينا، وبعضهم ذكر هيئات أخرى، بعضها صريح في تغطية معظم الوجه، وبعضها غير صريح في الكشف، بل إلى التغطية هو أقرب، فمن ذلك ما جاء عن ابن جرير قال [التفسير 19/182]:
- "وقال آخرون: بل أمرن أن يشددن جلابيبهن على جباههن"، ثم ساق سندا إلى ابن عباس – رضي الله عنهما - قال: "كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب: أن تقنّع وتشد على جبينها".
وهذا ليس فيه نص على الكشف، بل فيه شاهد على التغطية وهو التقنع. وسيأتي مزيد بيان لمعنى القناع.
وذكر الشوكاني في تفسيره فتح القدير قال:
- "قال: الواحدي: قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عينا واحدة، فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى. وقال: الحسن: تغطي نصف وجهها. وقال قتادة: تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه".
فنحن بين تفسيرات:
- منها تغطية الوجه إلا العين.
- ومنها تغطية نصف الوجه.
- ومنها إبداء العينين وبعض الوجه، مع ستر معظمه.
والأول منها هو المشهور، وهو قول ابن عباس – رضي الله عنهما-، وجمع من التابعين، وعليه جل المفسرين، وأكثرهم يذكره، وليس فيها نص صريح يقول بكشف الوجه، بل حتى هذا الذي اعتمدوا عليه في جواز الكشف، فيه ما يدل على التغطية، وهو ذكر التقنع.
ومما يجدر لفت النظر إليه: أن أولئك الذين صرحوا بجواز الكشف، في آية الزينة، كالقرطبي، والبغوي، وابن عطية، لما جاءوا إلى هذه الآية فسروها بتغطية الوجه، وليس في قول أحد من أهل العلم والمفسرين أن هذه الآية خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في وسع أحد أن يدعي ذلك، فهي عامة، حيث ذكر: الأزواج، والبنات، ونساء المؤمنين. معا، تحت أمر واحد.
وبعد كل هذه الدلائل، والتظاهر والاتفاق بين المفسرين: كيف يصح الاستدلال بهذه الآية على الكشف؟!.
استطراد: اعتراض.. وجواب
منع الشيخ الألباني من دلالة هذه الآية على التغطية، وذهب إلى أنها دليل على الكشف، واستدل بأمور:
(1) أن الإدناء في اللغة هو التقريب، وليس تغطية الوجه. [الرد المفحم ص7]
(2) الآية وحدها ليست نصا صريحا في التغطية، بل لا بد من مرجح. [الرد المفحم ص7]
(3) الاستدلال بأثر لابن عباس – رضي الله عنهما - فيه: "تدني جلبابها إلى وجهها، ولا تضرب به". [الرد المفحم ص8]
(4) الاستدلال ببعض الآثار عن قتادة ومجاهد وسعيد بن جبير. [الرد المفحم ص51]
(5) رد وتضعيف أثر ابن أبي طلحة عن ابن عباس – رضي الله عنهما - وأثر عبيدة السلماني. [جلباب المرأة المسلمة ص88]
والجواب على إيرادات الشيخ، رحمه الله تعالى، وأعلى درجته، يكون بما يلي:
(1) معنى الإدناء في اللغة قال الشيخ: "يصر المخالفون المتشددون على المرأة، وفي مقدمتهم الشيخ حمود التويجري حفظه الله، على أن معنى "يدنين": يغطين وجوههن. وهو خلاف معنى أصل هذه الكلمة: الإدناء. لغة، وهو التقريب".
الإدناء في اللغة هو التقريب بين الشيئين، فالدنو هو القرب، قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة [2/303]: "دنى: الدال، والنون، والحرف المعتل، أصل واحد، يقاس بعضه على بعض، وهو المقاربة.. ودانيت بين الأمرين: قاربت بينهما".
فهذا معنى الإدناء، فهل فيه ما يمنع أن يكون معناها تغطية الوجه؟.
هل يلزم من إدناء الجلباب كشف الوجه، وعدم تغطيته؟.
الجواب: كلا، لا يلزم، بل العكس هو الصحيح، فإن كل الدلائل الشرعية، واللغوية، وأقوال المفسرين تشير إلى أن الإدناء يلزم منه تغطية الوجه، والأدلة ما يلي:
(1) أن هذا هو قول أهل اللغة من المفسرين، كما هو قول الزمخشري، قال: "يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك"، وعن أبي حيان مثله، وقد تقدم.
(2) أن الفعل عدي بـ (على): "يدنين عليهن"، فهذا دليل على أن الإدناء يكون من فوق الرؤوس، وحينئذ ينزل بعض الجلباب على الوجه، فيغطيه.
(3) تفسير ابن عباس رضي الله عنهما الإدناء في الآية بتغطية الوجه، كما في رواية علي بن أبي طلحة.
(4) تطبيق التابعين لهذا المعنى عمليا، كما ورد عن عبيدة السلماني، وابن سيرين، وابن عون، وابن علية.
(5) تتابع المفسرين على ذكر رواية علي بن أبي طلحة، في تفسير الآية، وهي صريحة في التغطية، وتصريحهم بأن معنى الإدناء هو تغطية الأبدان والوجوه، حتى إنك لا تجد مفسرا فسر الآية بالكشف.
كل هذه الأمور تدل على رجحان التغطية، إذن دلالة الكلمة في اللغة هي التغطية، وليس الكشف.
(2) هل النص ليس صريحا في التغطية فيحتاج إلى مرجح؟.
يقول الشيخ: "وبينت أنه ليس نصا في تغطية الوجه، وأن على المخالفين أن يأتوا بما يرجح ما ذهبوا إليه".
يقال هنا: لو سلمنا، جدلا، أن الآية تحتمل المعنيين، وتحتاج إلى مرجح، فالمرجحات هي ما سبق من وجوه:
الأول: ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الآية: مرجح على أن المراد هو التغطية.
الثاني: أن تفسير الإدناء بالكشف، يلزم منه كشف الأزواج وجوههن، ولا قائل به، وهذا مرجح آخر.
الثالث: أنه قال عليهن: "يدنين عليهن"، والإدناء من أعلى دليل على التغطية، وهذا مرجح ثالث.
الرابع: سبب النزول أن النساء كن يكشفن الوجه والشعر، فأمرن بالتغطية. وهذا مرجح رابع.
الخامس: تفسير ابن عباس – رضي الله عنهما - وعبيدة السلماني وجمع من التابعين الآية بالتغطية، مرجح خامس.
السادس: تتابع المفسرين على تفسير الآية بالتغطية، فلا تجد من يقول بالكشف، مرجح سادس.
السابع: قول المفسرين من أهل اللغة، كالزمخشري وأبي حيان، مرجح سابع.
(3) أثر ابن عباس – رضي الله عنهما : "تدني الجلباب إلى وجهها، ولا تضرب به".
ذكر الشيخ أن هذا الأثر أخرجه أبو داود في مسائله (ص110) بسند صحيح جدا [الرد المفحم51].
ونص الأثر هو كما يلي: قال أبو داود في مسائله للإمام أحمد، في باب: ما تلبس المرأة في حرامها:
"حدثنا أحمد، قال حدثنا يحيى وروح، عن ابن جريج، قال أخبرنا، قال عطاء، أخبرني أبو الشعثاء، أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (تدني الجلباب إلى وجهها ولا تضرب به)، قال روح في حديثه: قلت: وما لا تضرب به؟، فأشار لي، كما تجلبب المرأة، ثم أشار لي ما على خدها من الجلباب، قال: تعطفه، وتضرب به على وجهها، كما هو مسدول على وجهها".
والشيخ حكم بالشذوذ على زيادة روح، فقال:
"وهذه زيادة شاذة لا تصح، لأن يحيى جبل في الحفظ؛ قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت في البصرة"، وقال: هو أثبت من هؤلاء. يعنى: ابن مهدي وغيره. فإذا قابلت هذه الشهادة منه بقوله في روح: لم يكن به بأس. عرفت الفرق بينهما، ولم تقبل زيادته على يحيى، ولم يدر التويجري هذا الفرق، ورجح رواية روح واحتج بها! ذلك مبلغه من العلم بهذا الفن". [الرد المفحم ص51]
فمخلص رأي الشيخ هنا يدور حول أمرين:
الأول: الجزم بأن معنى: "لا تضرب به" هو المنع من غطاء الوجه، أو هو دليل على الكشف.
الثاني: بنى على هذا المعنى الحكم بالشذوذ على زيادة روح، كونها تدل صراحة على التغطية.
وتعليقا يقال:
الشذوذ مصطلح يطلق على زيادة تفرد بها ثقة، خالف بها غيره، ولا يطلق على ما رواه ولم يروه غيره، وبهذا عرفه الشافعي، حيث قال: " هو أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس، وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره". قال ابن كثير: "الذي قاله الشافعي أولاً هو الصواب: أنه إذا روى الثقة شيئا، قد خالف فيه الناس فهو الشاذ، يعني المردود، وليس من ذلك أن يروي الثقة ما لم يرو غيره، بل هو المقبول، إذا كان عدلا، ضابطا، حافظا، فإن هذا لو رد لردت أحاديث كثيرة من هذا النمط، وتعطلت كثير من المسائل عن الدلائل". [الباعث الحثيث 56]
وإذا طبقنا هذا التعريف على زيادة روح فهل هي من قبيل رواية الثقة حديثا يخالف ما روى الناس؟، أم أن الراوي روى ما لم يرو غيره؟.
الجواب: قد علمنا أن الشيخ بنى حكمه بالشذوذ: على الجزم بأن معنى "لا تضرب به" هو: الكشف. وهذا ما لايسلم به، فللمنازع أن يقول: هذه مصادرة على المطلوب. وعلى القائل الدليل على ما ذهب إليه.
فهذه الكلمة، غامضة المعنى، لا تفهم لأول وهلة، فيُحتاج إلى مفسر، فتعين معنى ما، والجزم به، دون الاستناد إلى دليل مرجح، هو ما لا يقبل، وهذا ما فعله الشيخ.
بل لنا أن نقول عكس ذلك؛ أن معنى: "لا تضرب به"؛ أي تغطي وجهها، لكن بصورة معينة، إذ صور التغطية متعددة، فمنها ما يكون بالجلباب، ومنها ما يكون بالقناع، ومنها ما يكون بالخمار. والأدلة ما يلي:
(1) أن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو القائل، قد فسر كلامه بالتغطية، وخص نوعا منه هو السدل، فهو أدرى بما قال، وليس لنا أن نتحكم في كلامه، فنفسره بغير ما فسره هو به، خاصة إذا لم يكن لدينا دليل يبطل هذا التفسير.
(2) أن هذا الأثر ساقه أبو داود في باب: "ما تلبس المرأة في حرامها"، وهذا فيه قطع للخلاف، وذلك: أن المحرمة ممنوعة من النقاب، غير ممنوعة من السدل، لأن النقاب فيه شد على العضو، وهو الوجه، وهذا ما تمنع منه، كما تمنع من القفاز، للعلة ذاتها، أما السدل فليس فيه الشد، ولذا جاز، ومن هنا ورد عن عائشة وأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، ونساء المؤمنين السدل حال الإحرام، فابن عباس – رضي الله عنهما- إذن كان يقصد بقوله: "لا تضرب به" أي النهي عن الشد على الوجه، بالنقاب ونحوه، ولذا لما سئل عن المعنى فسره بما يباح للمحرمة، مما لا يكون ضربا به، ففسره بالسدل. وعكس السدل هو الضرب به.
(3) أن الإمام أحمد رحمه الله فهم هذه المسألة عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، فكان يفتي المحرمة بالسدل للمحرمة، ويمنع من الضرب به، وهو الشد على الوجه، لما فيه من ملابسة العضو (4).
(4) أن القول بأن الكلمة معناها: الكشف. فيه إشكال؛ إذ مقتضاه أن ابن عباس – رضي الله عنهما - أطلق النهي عن تغطية الوجه، ومعلوم أن أقل أحوال التغطية الاستحباب، ومن المستبعد جدا أن ينهاهن عن التغطية، هذا إن كان حكما عاما، وأما إن كان خاصا بالمحرمة، فكذلك بعيد أن يطلق المنع من التغطية لأمرين:
الأول: أنه بلا ريب، كان يرى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابيات يغطين، بمرأى منه صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، فكيف يمنعهن من شيء رأى وشاهد إباحة الشارع لهن؟!.
الثاني: أن حمل كلامه على المنع من التغطية، يلزم دخول الأزواج رضوان الله عليهن في هذا الحكم، لأن حكمهن في الإحرام حكم سائر النساء.
ومن هذا يتبين لنا أنه لا وجه للحكم على هذه الزيادة بالشذوذ، لأنه لا شذوذ هنا، ولا دليل عليه، بل هي زيادة ثقة، يروي ما لم يرو غيره. وهذا على فرض أن هذه الزيادة من قول ابن عباس!!.
فإن من المحتمل أن تكون من سؤال روح لشيخه، حيث جاء في النص: "قال روح في حديثه: قلت..". فالنص فيه احتمال الأمرين: أن يكون المسؤول ابن عباس – رضي الله عنهما -من تلميذه أبي الشعثاء، وقد يكون المسؤول شيخ روح، يسأله روح. فلو قدر أن الاحتمال الثاني هو الوارد، فالحكم على الزيادة بالشذوذ خطأ لا يصح، إذ ليس كلاما لابن عباس – رضي الله عنهما -، بل تفسير الراوي كلامه، وتفسير الراوي لا يخضع لقاعدة القبول والشذوذ، بل لقاعدة الخطأ والصواب، والذي يبدو أن الشيخ رحمه الله تعالى عدّ الزيادة من كلام ابن عباس – رضي الله عنهما- ، فلذا أجرى عليها قاعدة الشذوذ والقبول، لكن قد تبين لنا: أن الزيادة إنما هي من قبيل رواية الراوي ما لم يرو غيره.
إذن الخطأ وقع في أمرين:
الأول: استعمال مصطلح الشذوذ في هذا الموضع، وليس محله.
الثاني: الجزم بأن معنى الكلمة عدم التغطية، دون تقديم دليل يدل عليه، وبنا الحكم بالشذوذ عليه.
(4) الآثار عن قتادة وسعيد بن جبير ومجاهد.
استدل الشيخ الألباني ببعض الآثار لدعم قوله في الكشف، وهي كما يلي [الجلباب 85، الرد المفحم51]:
- في الدر 5/222: وأخرج بن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "يدنين عليهن من جلابيبهن"، قال: يسدلن عليهن من جلابيبهن، وهو القناع فوق الخمار، ولا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار، وقد شدت بها رأسها ونحرها".
- ونقل الجصاص في أحكام القرآن (3/372) عن مجاهد وابن عباس: "تغطي الحرة إذا خرجت جبينها ورأسها" .
- وعن ابن جرير عن قتادة: "أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب".
ويقال هنا: هذه النصوص، وقد مضى ذكرها عند سرد أقوال المفسرين، ليس فيها القول بكشف الوجه، وإنما قال الشيخ ذلك، من رأيه في معنى القناع، أنه غطاء الرأس دون الوجه [انظر: الرد المفحم 20]، لكن يشكل عليه تتابع العلماء على تفسير القناع بما يدل على أنه غطاء الوجه، والأدلة ما يلي:
(1) في البخاري: ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد..)، قال الحافظ في الفتح (6/25): "قوله: (مقنع) بفتح القاف والنون المشددة، وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب". ومع صراحة هذا التفسير، غير أن الشيخ رحمه الله أبى إلا أن يقول: "فإنه يعني ما جاور الوجه، وإلا لم يستطع المشي، فضلا عن القتال، كما هو ظاهر" [الرد المفحم 21]. والواقع أن كل من رأى الأقنعة، علم أنها غطاء الوجه. فالقناع يغطي الوجه، حتى لا يبدو إلا العين، للنظر، كهيئة النقاب، وحينئذ يمكن المشي والقتال، وكلام ابن حجر واضح أنه يعني بالقناع غطاء الوجه، فهذا صريح كلامه، فتأويل هذا الصريح بعدئذ، لينقلب فيغدو : "ما جاور الوجه".. أمر غير سائغ بمرة..؟!!!.
(2) مر معنا سابقا قول الزمخشري: "أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها، تتقنع، حتى تتميز من الأمة"، وهو من أئمة اللغة العربية، وها قد فسر القناع بما يفيد تغطية الوجه.
(3) في أثر عبيدة، وقد رواه ابن جرير، كما مر سابقا: "قال ابن عون: بردائه، فتقنع، فغطى أنفه وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه، أو على الحاجب". وهنا كذلك فسر التقنع بما يفيد تغطية الوجه.
والقناع عند العرب معروف بكونه غطاء الوجه، وهاكم أدلة على هذا:
(1) المقنع الكندي، إنما عرف بهذا اللقب، لأنه كان يغطي وجهه ببرقع من حرير، كما ذكر البغدادي في كتابه [ الفرق بين الفرق ص243]، وزعم أنه إله، وأنه لو كشف وجهه لم يحتمل أحد رؤيته [الموسوعة الفلسفية 2/323 ]
(2) ذكر اليعقوبي في تاريخه [2/315]: "وكانت العرب تحضر سوق عكاظ وعلى وجوهها البراقع، فيقال: إن أول عربي كشف قناعه ظريف بن غنم العنبري".
(3) المثل السائر: "ألقى عن وجهه قناع الحياء" [لسان العرب 11/323، مادة: قنع].
ولعل كذلك مما دعا الشيخ ليتبنى هذا الرأي، هو ما جاء في الآثار من ذكر الرأس والجبين، دون الوجه.
وإذا تأمل المرء القناع، عرف أنه لا بد فيه من شد على الجبين والرأس، فبدونه لا يكون، وإذا كان كذلك فليس بعيدا أن يذكر الشد على الرأس والجبين، ويستغنى به عن ذكر الوجه، لأن هذا لازم لهذا.
فأقوال هؤلاء الأئمة ليس فيها المنع من تغطية الوجه، وذكرهم القناع دليل على أنهم أرادوا تغطية الوجه. فإذا اعترض أحد فقال: ليس في هذه الأقوال التصريح بتغطية الوجه.
قيل: وليس فيها التصريح بكشف الوجه، فيبقى محتملا، وعندنا ما يرجح التغطية، وهو ذكر القناع، فيحمل عليه إذن.
(5) أثر ابن عباس – رضي الله عنهما -. مضى ذكر الأثرين، وهما صريحان في التغطية، غير أن الشيخ مال إلى تضعيفهما، فقال في أثر ابن عباس:
- "لا يصح هذا عن ابن عباس، لأن الطبري رواه من طريق علي عنه، وعلي هذا هو ابن أبي طلحة، كما علقه عنه ابن كثير، وهو مع أنه تكلم فيه بعض الأئمة، لم يسمع من ابن عباس – رضي الله عنهما ، بل لم يره، وقد قيل: بينهما مجاهد، فإن صح هذا في هذا الأثر فهو متصل، لكن في الطريق إليه أبو صالح، واسمه عبد الله بن صالح، وفيه ضعف". [جلباب المرأة 88]
فالشيخ إذن رد هذا الأثر من جهتين: من جهة علي ابن أبي طلحة، ومن جهة عبد الله بن صالح.
فأما علي بن أبي طلحة، فقد ذكر الشيخ أنه إن صح أخذه التفسير من مجاهد فهو متصل، وهذا هو ما كان، قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال (3/134):
- "أخذ تفسير ابن عباس – رضي الله عنهما - عن مجاهد، فلم يذكر مجاهدا، بل أرسله عن ابن عباس" رضي الله عنهما -.
فهذه شهادة باتصال تفسيره إلى ابن عباس، هذا وإن رواية علي هذه من الروايات المقبولة والمعتبرة عند المحدثين، قال السيوطي [في الإتقان في علوم القرآن 2/241]:
"وقد ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة، وفيه روايات وطرق مختلفة، فمن جيدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي، عنه قال أحمد بن حنبل:
- بمصر صحيفة في التفسير، رواها علي ابن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر، قاصدا، ما كان كثيرا.
أسنده أبو جعفر في ناسخه. قال ابن حجر:
- وهذه النسخة كانت عند أبي صالح، كاتب الليث، رواها معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، وهي عند البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيرا، فيما يعلقه عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، وأخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح.
وقال قوم: لم يسمع ابن أبي طلحة من ابن عباس رضي الله عنهما - التفسير، وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير. قال ابن حجر: بعد أن عرفت الواسطة، وهو ثقة، فلا ضير في ذلك"(5).
وذكر ابن حجر في كتابه [العجاب في بيان الأسباب ص57-58] فقال: "ومن طريق: معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وعلي: صدوق. لم يلق ابن عباس، لكنه إنما حمل عن ثقات أصحابه، فلذلك كان البخاري وابن أبي حاتم وغيرهما، يعتمدون على هذه النسخة".
وابن حجر نفسه يحتج بهذه الرواية ويصححها، ففي الفتح [13/271] قال:
"وأخرج الطبري بسند صحيح عن عاصم بن كلي، عن أبيه عن ابن عباس – رضي الله عنهما - ثم أخرج من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس – رضي الله عنهما - بسند صحيح، قال: الأب: الثمار الرطبة".
إذن لا وجه للطعن في هذه الرواية، فهي ثابتة، عمل بها الأئمة، واحتجوا بها، وليس بعد قول الإمام أحمد والبخاري وابن حاتم وابن حجر فيها قول.
أما عبد الله بن صالح، فقد نقل الذهبي أقوال الأئمة فيه، بين مجرح ومعدل (ميزان الاعتدال 2/440-442)، فالشيخ قال فيه ضعف، وهذه إشارة إلى أن ضعفه ليس بالشديد، وهكذا قال أبو زرعة:
- "لم يكن عندي ممن يتعمد الكذب، وكان حسن الحديث".
- "وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث، إلا أنه يقع في أسانيده ومتونه غلط، ولا يتعمد".
- قال الذهبي: "وقد روى عنه البخاري في الصحيح، على الصحيح، ولكنه يدلسه، يقول: حدثنا عبد الله ولا ينسبه، وهو هو، نعم علق البخاري حديثا فقال فيه: قال الليث بن سعد، حدثني جعفر بن ربيعة، ثم قال في آخر الحديث: حدثني عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، فذكره. ولكن هذا عند ابن حمّويه السرخسي دون صاحبيه، وفي الجملة ما هو بدون نعيم بن حماد، ولا إسماعيل بن أبي أويس، ولا سويد بن سعيد، وحديثهم في الصحيحين، ولكل منهم مناكير تغتفر في كثرة ما روي".
فإذا كان هذا رأي الذهبي فيه، وابن عدي، وأبي زرعة، والبخاري، فكيف يرد حديثه جملة وتفصيلا؟.
ثم إن ثناء الإمام أحمد وقبوله، والإمام البخاري، وابن أبي حاتم، وابن حجر:
ما في صحيفة علي بن أبي طلحة تعديل وقبول ضمني لرواية أبي صالح عبد الله بن صالح، إذ هو أحد رواة هذه الصحيفة.
وأمر أخير هو: أن هذه الرواية معتضدة بأثر عبيدة السلماني، الذي بنفس معناها، لكن الشيخ كذلك ضعفها، من وجوه هي [الرد المفحم 55-57] ما يلي:
(6) أثر عبيدة السلماني.
(1) قال الشيخ رحمه الله تعالى: " أنه مقطوع، موقوف، فلا حجة فيه، لأن عبيدة السلماني تابعي، اتفاقا، فلو أنه رفع حديثا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكان مرسلا، لا حجة فيه، فكيف إذا كان موقوفا عليه كهذا، فكيف وقد خالف تفسير ترجمان القرآن: ابن عباس – رضي الله عنهما -، ومن معه من الأصحاب؟".
هنا يقال:
الأول: هذا الأثر سنده كالشمس، لا مطعن فيه بوجه.
ثانياً: ليس رفع الأثر محل الاحتجاج، فهذا لم يدعه أحد، بل في كونه حكاية قول جماعة من السلف في معنى الآية، وهذا ثابت بثبوت سنده.
ثالثاً: لو فرض جدلا مخالفته رأي ابن عباس، فليس دليلا على ضعفه، إذ هو أثر مستقل، وليس رواية عن ابن عباس، فكيف وهو موافق تمام الموافقة لقول ابن عباس رضي الله عنهما؟.
(2) قال: "أنهم اضطربوا في ضبط العين المكشوفة فيه، فقيل: (اليسرى)، كما رأيت، وقيل: (اليمنى)، وهو رواية الطبري (22/33)، وقيل: (إحدى عينيه)، وهي رواية أخرى له".
يقال: الاضطراب في المتن هو: الاختلاف بين ألفاظ الروايات، على وجه لا يمكن الترجيح بينها. والاختلاف هنا ليس من هذا القبيل ألبتة، بل هو متصور، أن يقول أحدهم: اليمنى. والآخر: اليسرى. فالغلط هنا وارد، لكنه ليس بالغلط القادح في الرواية.
هذا والشيخ نفسه قد قبل مثل هذا الاختلاف في حديث أسماء المشهور في كشف الوجه، ولم يرده بدعوى الاضطراب، بل شنع على من رده، فقال [الرد المفحم ص109]:
" نعم لقد شغب العنبري على المتن من ناحية واحدة، فقال: نرى الرسول صلى الله عليه وسلم في الطريق الأولى يشير إلى الوجه والكفين، وفي الطريق الثانية لم يبد إلا أصابعه.
فأقول: نعم، ولكن ما بالك كتمت اتفاق الطريق الثالثة، الصحيحة إلى قتادة باعترافك، مع الطريق الأولى؟!. أليس هذا مما يرجح لفظ: (الكفين) على (الأصابع)".
فالشيخ هنا لم يحكم على الحديث بالاضطراب، مع كونه ورد في رواية بلفظ: (الوجه والكفين)، وفي الأخرى بلفظ: (الأصابع)، لكنه حكم بالاضطراب على أثر عبيدة السلماني بالاضطراب، لأنه روي من طريق بلفظ: (العين اليمنى)، وفي أخرى: (اليسرى)، وفي ثالثة: (إحدى عينيه)..!!.
الذي نعلمه أن الغلط في تحديد العين وارد، ومن ثم فلا وجه للحكم على الأثر بالاضطراب.
وانظر بعد هذا إلى كلام الشيخ، وهو يعلق على حديث عبيدة [الرد المفحم 56]:
"وإذا عرفت هذا، فاعلم أن الاضطراب عند علماء الحديث علة في الرواية تسقطها عن مرتبة الاحتجاج بها، حتى ولو كان شكليا كهذا، لأنه يدل على أن الراوي لم يضبطها ولم يحفظها".
ويقال هنا: على هذا الميزان يجب كذلك إسقاط حديث أسماء، لأن العلة ذاتها موجودة فيه ..!!.
مع ملاحظة أن الشيخ أبلغ الجهد في تصحيحه، حتى إنه استغرق قرابة 50 صفحة في الكلام عنه في الرد المفحم [من ص79-127].
(3) قال: "ذكره ابن تيمية في الفتاوى (15/371) بسياق آخر يختلف تماما عن السياق المذكور، فقال: "وقد ذكر عبيدة السلماني وغيره: إن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن، حتى لايظهر إلا عيونهن، لأجل رؤية الطريق".
يقال: من الواضح أن شيخ الإسلام كان يروي الأثر نفسه، لكن بالمعنى، وليس من طريق آخر، ويحكي تاريخا واقعا، فلا أدري كيف يكون هذا دليلا على ضعف الرواية الأصل وبطلانها؟!!.
والعجب أن الشيخ نفسه قد ذكر هذا فقال [الرد المفحم ص56]:
"على أن سياق ابن تيمية ليس شكليا، كما هو ظاهر، لأنه ليس في تفسير الآية، وإنما هو إخبار عن واقع النساء في العصر الأول، وهو بهذا المعنى صحيح ثابت في أخبار كثيرة، كما سيأتي في الكتاب بعنوان: (مشروعية ستر الوجه) ص104، ولكن ذلك لا يقضي وجوب الستر، لأنه مجرد فعل منهن".
فإذا كان الأمر كذلك، فكيف صار هذا وجها لتضعيف أثر عبيدة السلماني؟!.
(4) قال: "مخالفته لتفسير ابن عباس – رضي الله عنهما - للآية كما تقدم بيانه، فما خالفه مطرح بلا شك".
يقال: تقدم ثبوت أثر ابن عباس – رضي الله عنهما - من رواية ابن أبي طلحة، بشهادة الأئمة: أحمد، والبخاري، وابن أبي حاتم، وابن حجر. وهي موافقة تماما لما جاء في أثر عبيدة السلماني، وعليه فلا حجة لهذا الوجه.
ختام المبحث: وبعد بيان هذه الاعتراضات من الشيخ رحمه الله والجواب عليها، يتبين بوضوح أنه لا حجة في هذه الآية على القول بالكشف. والأمر الملفت للنظر:
- تظاهر المفسرين على تفسير الآية بالتغطية، فلا تجد مفسرا صرح فيه بكشف الوجه، وهذا بخلاف ما جاء عنهم في آية الزينة: "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها"، لأمر سنذكره في موضعه.
- ويلاحظ أن الشيخ لم يلتفت إلى هذا التظاهرة، وتصريح جماهير المفسرين بدلالة الآية على تغطية الوجه، فلم يذكرها، ولم يتطرق إليها، كما لم يلتفت إلى كلام أهل اللغة، من المفسرين، كالزمخشري وابن حيان، في تفسيرهم الإدناء بالتغطية!!.
وبعد: فالنتيجة المهمة التي نخرج بها من هذا المبحث هي:
- أنه إذا كانت الآية قطعية الثبوت، وهذا بإجماع المسلمين، لأنها من القرآن، والله تعالى حفظه.
- وإذا ثبتت قطعية دلالتها على وجوب حجاب الوجه، بما سبق من الوجوه والأدلة.
فنخرج من ذلك: أن الآية محكمة الدلالة، فتكون من المحكمات، التي يصار إليها حين الخلاف، فما عارضها، وكان ثابتا بسند صحيح، بدلالة صريحة على الكشف، فهو متشابه، كأن يكون قبل الأمر بالحجاب، أو لعذر خاص، وحالة خاصة،، فيرد هذا المتشابه إلى هذا المحكم، ويفهم في ضوئه، وبذلك ينتفي التعارض، فهذا سبيل التعامل مع المحكمات، لا يصح ولا يجوز تعطيلها لأجل متشابه.
هذا لو كان هذا المتشابه بهذا الوصف من ا