الوصية بكتاب الله تعالى ( القرآن الكريم )
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه ؛ نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه ، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين ، أما بعد :
فإن كتاب الله فيه الهدى والنور ، وهو حبله المتين ، وصراطه المستقيم ، وهو ذكره الحكيم ؛ من تمسك به نجا ، ومن حاد عنه هلك ، يقول الله - عز وجل - في هذا الكتاب العظيم : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [1] .
هذا كتاب الله يهدي للتي هي أقوم ؛ يعني : للطريقة التي هي أقوم ، والمسلك الذي هو أقوم ، الذي هو خير الطرق وأقومها وأهداها ، فهو يهدي إليه ، يعني : يرشد إليه ، ويدل عليه ويدعو إليه ؛ وهو توحيد الله وطاعته ، وترك معصيته ، والوقوف عند حدوده ، هذا هو الطريق الأقوم ، وهو المسلك الذي به النجاة .
أنزله الله جل وعلا تبياناً لكل شيء ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ، كما قال - سبحانه - في سورة النحل : وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [2] .
فهو تبيان لكل شيء ، وهدى إلى طريق السعادة ، ورحمة وبشرى ، ويقول - جل وعلا - : قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ [3] ؛ هدىً لقلوبهم للحق ، وشفاء لقلوبهم من أمراض الشرك والمعاصي والبدع والانحرافات عن الحق ، وشفاء للأبدان من كثير من الأمراض .
وهو بشرى للإنس والجن ، لكنه - سبحانه - ذكر المؤمنين ؛ لأنهم هم الذين اهتدوا به وانتفعوا به ، وإلا فهو شفاء للجميع ، كما قال - جل وعلا - : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [4] .
فالقرآن شفاء ودواء للقلوب من جميع الأدواء المتنوعة ؛ أدواء الشرك والمعاصي ، والبدع والمخالفات ، وهو شفاء لأمراض الأبدان أيضاً ، وأمراض المجتمعات ؛ شفاء لأمراض المجتمع وأمراض البدن ، لمن صلحت نيته وأراد الله شفاءه ، يقول - جل وعلا - : الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [5] .
فهو كتاب يخرج الله به الناس من الظلمات ؛ من ظلمات الشرك والمعاصي ، والفرقة والاختلاف ، إلى نور الحق والهدى ، والاجتماع على الخير ، والتعاون على البر والتقوى، وهذا هو صراط الله المستقيم ، وهو توحيد الله ، وأداء فرائضه وترك محارمه ، والتواصي بحقه والحذر من معاصيه ومن مخالفة أمره ، هذا هو صراط الله المستقيم ، وهذا هو النور والهدى ، وهذا هو الطريق الأقوم ، وقال - سبحانه - في سورة الأنبياء : وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [6] ، وقال - سبحانه - في سورة يس : إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [7] .
والمقصود : أن الله - جل وعلا - جعل كتابه ذكراً ، وجعله نذارة ، وجعله شفاءً ، وجعله هدى ؛ فالواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس أن يهتدوا به ، وأن يستقيموا عليه ، وأن يحذروا مخالفته ، قال - جل وعلا - : كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [8] ، وقال - سبحانه - : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [9] ، وقال - جل وعلا - : أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [10] .
وسئلت عائشة - رضي الله عنها – فقيل لها : يا أم المؤمنين : ماذا كان خُلُق النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت : (( كان خلقه القرآن )) ، قال - تعالى - : وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [11] .
والمعنى : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتدبر القرآن ، ويكثر من تلاوته ، ويعمل بما فيه ؛ فكان خلقه القرآن ؛ تلاوة وتدبراً ، وعملاً بأوامره وتركاً لنواهيه ، وترغيباً في طاعة الله ورسوله ، ودعوة إلى الخير ، ونصيحة لله ولعباده ، إلى غير ذلك من وجوه الخير .
وقال - تعالى - : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [12] . فالقرآن هو أحسن القصص ، وهو خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ونصيحتي لجميع المسلمين - رجالاً ونساءً ، جناً وإنساً ، عرباً وعجماً ، علماء ومتعلمين - نصيحتي للجميع : أن يعتنوا بالقرآن الكريم ، وأن يكثروا من تلاوته بالتدبر والتعقل ، بالليل والنهار ، ولا سيما في الأوقات المناسبة التي فيها القلوب حاضرة للتدبر والتعقل ، والذي لا يحفظه يقرأه من المصحف ، والذي لا يحفظ إلا البعض ، يقرأ ما يتيسر منه ؛ قال - تعالى - : فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [13] .
وإذا كان يعرف الحروف يتهجى ؛ ويقرأ من المصحف حتى يتعلم زيادة ، والذي لا يعلم يتعلم من أمه أو أبيه أو ولده أو زوجته - إن كانت أعلم منه - والتي لا تعرف يعلمها أبوها أو أخوها أو زوجها أو أختها أو غيرهم .
وهكذا يتواصى الناس ويتعاونون ؛ الزوج يعين زوجته ، والزوجة تعين زوجها ، والأب يعين ولده ، والولد يعين أباه ، والأخ يعين أخاه ، والخال والخالة ، وهكذا الكل يتعاونون ويتواصون بهذا الكتاب العظيم ؛ تدبراً وتعقلاً وعملاً ؛ لقول الله - عز وجل - : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [14] ، وقوله - سبحانه - : وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [15] .
ولما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للناس في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع : ((إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به ؛ كتاب الله )) [16] . هكذا يوصيهم - عليه الصلاة والسلام - بكتاب الله ، ويخبرهم أنهم لن يضلوا إن اعتصموا به ، وفي اللفظ الآخر : ((كتاب الله وسنتي)) [17] . وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الله ؛ لأن الله - سبحانه - يقول : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [18] .
فكتاب الله يأمر بطاعة الله وطاعة رسوله ، قال - تعالى - : قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [19] ، ويقول - جل وعلا - : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [20] ، ويقول : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [21] .
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أوصى بالقرآن ؛ فوصيته بالقرآن وصية بالسنة ، وهي : أقواله وأفعاله وتقريراته – كما تقدم - .
ويروى عن علي - رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( تكون فتن )) ، فقيل له : يا رسول الله : فما المخرج منها ؟ قال : (( كتاب الله ؛ فيه نبأ ما كان قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ... )) [22] . الحديث .
فهو المخرج من جميع الفتن ، وهو الدال على سبيل النجاة ، وهو المرشد إلى أسباب السعادة ، والمحذِّر من أسباب الهلاك ، وهو الداعي إلى جمع الكلمة ، وهو المحذر من الفرقة والاختلاف ، قال - تعالى - : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء [23] ، ويقول - جل وعلا - في هذا الكتاب العظيم : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات [24] ، ويقول – سبحانه وتعالى- : واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا [25] .
فهو يدعو إلى الاجتماع على الحق ، والتواصي بالحق ، كما قال - سبحانه - : والعصر. إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [26] .
وهذه السورة العظيمة القصيرة قد جمعت الخير كله ، ما أبقت شيئاً من الخير إلا ذكرته ، ولا شيئاً من الشر إلا وحذرت منه .
وهؤلاء المستثنون فيها هم الرابحون ؛ من الجن والإنس ، من الذكور والإناث ، من العرب والعجم ، من التجار والفقراء ، من الأمراء وغيرهم ، هم الرابحون ، وهم الناجون من الخسران ، وهم الذين اتصفوا بأربع صفات ، وهي : الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر .
وهؤلاء هم السالمون من الخسران ، ومن عداهم خاسر على حسب ما فاته من هذه الصفات الأربع .
فمن آمن بالله ورسوله ، وصدَّق الله في أخباره ، وصدّق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه ، وآمن بكل ما أخبر الله به ورسوله من أمر الآخرة والجنة والنار والحساب والجزاء وغير ذلك ، وآمن بأن الله - سبحانه – هو المستحق للعبادة ، وأنه واحد لا شريك له ، وأن العبادة حقه ، وأنه لا تجوز العبادة لغيره ، وصدق بهذا .
كما أخبر الله في كتابه العظيم ، حيث قال - سبحانه - : فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [27] ، وقال - تعالى - : وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [28] ، وقال - سبحانه -: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [29] ، وقال - تعالى - : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [30] ، وقال - تعالى - : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [31] ، وقال - سبحانه - : اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [32] ، وقال - سبحانه - : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [33] ، وقال عز وجل : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [34] .
فهذا هو أصل الدين وأساس الملة ؛ أن تؤمن بأن الله هو الخالق والرازق ، وأنه هو المعبود الحق ، وأنه - سبحانه - له الأسماء الحسنى والصفات العلى ؛ لا شبيه له ولا كفو له ، ولا شريك له في العبادة ولا في الملك والتدبير .
كما - قال سبحانه - : اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [35] ، وقال - سبحانه - : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ .
اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [36] ، وقال - سبحانه - : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [37] ، وقال - سبحانه - في سورة الحج : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [38] ، وقال - سبحانه - : وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً [39] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة .
والخلاصة : أن الواجب على كل مكلف من الجن والإنس أن يخص الله بالعبادة ، وأن يؤمن إيماناً قاطعاً بأنه الخلاق الرزاق ، لا خالق إلا الله ، ولا رب سواه ، وأنه - سبحانه - المستحق للعبادة ، لا يستحقها أحد سواه ، وهو المستحق لأن يعبد ؛ بالدعاء والخوف والرجاء والصلاة ، والصوم ، والذبح والنذر ، وغيرها ، كلٌ لله وحده لا شريك له ، قال - تعالى - : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [40] ، وقال - تعالى - : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [41] .
وهذا هو معنى لا إله إلا الله ؛ فإن معناها : لا معبود بحق إلا الله ، كما قال - تعالى - : فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [42] ؛ يعني : فاعلم أنه لا معبود بحق إلا الله ، فهو المستحق أن يعبد .
ومن عبد الأصنام ، أو أصحاب القبور ، أو الأشجار أو الأحجار ، أو الملائكة أو الأنبياء، فقد أشرك بالله ، وقد نقض قول لا إله إلا الله وخالفها ، وقد خالف قوله - تعالى - : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [43] ، وخالف قوله - تعالى - : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [44] .
فصار من جملة المشركين ؛ عُبَّاد القبور ، والأصنام والأشجار والأحجار ، الذين يستغيثون بأصحاب القبور ويتبركون بقبورهم ، ويدعونهم أو يطوفون بقبورهم يرجون نفعهم وثوابهم ، أو يستغيثون بهم ، أو يطلبون منهم الولد أو المدد ، أو ما أشبه ذلك مما يفعله عبّاد القبور ، وعبّاد الأصنام ، أو يستغيثون بالنجوم ، أو بالجن أو بالملائكة أو بالأنبياء ، أو بغيرهم من المخلوقات .
كل هذا نقض لقول لا إله إلا الله ، وشرك بالله ينافي التوحيد ويضاده ، ومخالف لقول الله - جل وعلا - وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [45] ، وقوله - تعالى - : وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [46] ، ولقوله - تعالى - : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [47] ، وقوله - سبحانه - : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [48] ، وقوله - تعالى - : وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [49] .
فلابد من توحيد الله ، والإخلاص له في صلاتك ، وصومك ، وسائر عباداتك ، وفي ذبحك ، ونذرك ، وخوفك ورجائك ، لابد في كل ذلك من ترك الإشراك بالله والحذر منه ، مع الإيمان بالله - ربك - وأنه خالقك ؛ لا خالق غيره ، ولا رب سواه ، مع الإيمان بأسمائه وصفاته ، وأنه - سبحانه - ذو الصفات العلى والأسماء الحسنى ؛ لا شبيه له ، ولا كفو له ولا ند له .
كما قال - سبحانه وتعالى - : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [50] ، وقال - تعالى - : فلا تجعلوا لله أنداداً [51] ، والمراد : أشباه ونظراء ، وقال - تعالى : - ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [52] ، وقال - تعالى - : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [53] .
وعليه - أيضاً - أن يؤمن بأن كل إنسان مكلف ، يجب أن يؤمن بأن الله - سبحانه - هو خالقه وموجده ، وأنه خالق كل شيء ومالكه ، وأنه هو المستحق أن يعبده ، وأنه هو الإله الحق ، وهو المعبود بالحق .
ولا يكون المرء مؤمناً إيماناً كاملاً ، إلا إذا اعتقد أنه - سبحانه - له الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وأن أسماءه كلها حسنى ، وصفاته كلها عُلى ، وأنه لا شبيه له ، ولا مِثْل له ، ولا كفؤ له .
كما قال - سبحانه - : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ وقال - تعالى - : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [54] ؛ يعني لا سمي له ، ولا كفؤاً له ، ولا شريك له .
وقال - تعالى - : فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون [55] . والمعنى : لا تجعلوا له أشباهاً ونظراء تدعونهم معه .
وقال - سبحانه وتعالى - : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [56] ؛ فهو يسمع أقوال عباده ويسمع دعاءهم ، ويراهم ، ومع ذلك لا شبيه له في ذاته ، ولا في أسمائه ، ولا في سمعه وبصره ، ولا في جميع صفاته ؛ فهو الكامل في كل شيء ، وخلقه لهم النقص، أما الكمال فهو له - سبحانه وتعالى - في كل الأمور .
فعليك بتدبر القرآن حتى تعرف هذا المعنى ، تدبر القرآن من أوله إلى آخره ؛ من الفاتحة - وهي أعظم سورة في القرآن ، وأفضل سورة فيه - إلى آخر ما في المصحف : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، والمعوذتين .
تدبر القرآن ، واقرأه بتدبر وتعقل ، ورغبة في العمل والفائدة ، لا تقرأه بقلب غافل ، اقرأه بقلب حاضر بتفهم وبتعقل ، واسأل عما أشكل عليك ؛ ا سأل أهل العلم عما أشكل عليك ، مع أن أكثره – بحمد الله – واضح للعامة والخاصة ممن يعرف اللغة العربية.
مثل قوله - جل وعلا - : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [57] ، وقوله - تعالى - : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [58] ، وقوله - سبحانه - : من يطع الرسول فقد أطاع الله [59] ، وقوله - عز وجل - : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [60] ، وقوله - تعالى - : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [61] ، وقوله - سبحانه - : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [62] ، وقوله - تعالى - : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [63] ، وقوله - عز وجل - : وأحل الله البيع وحرم الربا [64] .
فكله آيات واضحات ، بيّن الله سبحانه وتعالى فيها ما حرم على عباده وما أحل لهم ، وما أمرهم به وما نهاهم عنه .
وهكذا حرَّم الله الظلم ، فقال - تعالى - : وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [65] ، وقوله - سبحانه - : وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً [66] .
فعليك يا عبد الله أن لا تظلم الناس ؛ لا في أنفسهم ولا في أعراضهم ولا في أموالهم ، احذر الظلم ؛ فعاقبته وخيمة ، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله )) [67] .
فاحذر ؛ لا تعتد على الفقير أو تخونه ، أو تخون غير الفقير ، اتق الظلم في المعاملات وفي كل شيء ؛ لا تظلم عمالاً ، إذا كنت صاحب شركة أو عندك عمال في بيتك ؛ أعطهم حقوقهم وأوف لهم بالشروط ؛ فشروطهم أعطهم إياها - سواء كنت مدير شركة أو صاحب عمال في بيتك أو في مزرعتك - فاتق الله فيهم ، لا تستضعفهم فتخونهم ، وهكذا في جميع شئونك ، لا تكن خائناً ولا غشاشاً في بيعك وشرائك .
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( من غشنا فليس منا )) [68] ، ويقول الله - جل وعلا - : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَ [69] ، ويقول - سبحانه - في وصف المؤمنين : وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [70] ، ويقول - جل وعلا - : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [71] . فإذا كنت وكيلاً لإنسان في مزرعته أو شركة أو غير ذلك فلا تخنه ، انصح وأدِّ الواجب ، ولا تأخذ من حقه شيئاً إلا بإذنه ، وهكذا في جميع الأشياء ؛ كالوكيل في البيع أو الشراء، يجب عليه أن ينصح في ذلك ؛ في الإجارة انصح ، ولا تخن في أي شيء ، في بيع ثمار النخل ، في أي شيء انصح قال تعالى : وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [72] .
وإذا كان عليك دين فاتق الله في أداء الدين ، لا تقل إنني لا أستطيع - وأنت تكذب – اتق الله وأد الدين لمستحقه ؛ فأنت مأمور بذلك ؛ مأمور أن تؤد الحقوق وأن توفي بالعقود يقول الله - جل وعلا - : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [73] ؛ زكاة نفوسهم وزكاة أموالهم . وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [74] ؛ أي : يحفظون الفروج من الزنا واللواط وسائر المعاصي ، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [75] ؛ يرعون الأمانات والعهود حتى يؤدوها كما شرع الله . وهكذا الكلام السري هو من الأمانات ، فلا تتكلم به ولا تفش السر ، ومن قال افعل كذا وكذا ولا تخبر به أحداً ، فإن ذلك يكون سراً بينك وبينه ، فلا تخنه ، ولا تخن أمانة السر التي ليس فيها ضرر على أحد .
ومن أوصاك على عياله أو أوصاك على مزرعته فأد الحق ، وراقب الله في ذلك ؛ فإن الله - سبحانه - رقيب عليك ، وإذا اقترضت من إنسان حاجات فأد حقه إليه ، ولا تخنه في ذلك ، واتق الله وأعطه جميع الحاجات التي أخذتها منه أو ثمنها – إن كنت أخذتها بالشراء – ولا تجحد ما عندك له إذا كان قد نسيه ، بل أعطه إياه ، وقل : إن هذا لك عندي ثمن كذا وثمن كذا ؛ قال - تعالى - : وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [76] .
فالصلاة أعظم الواجبات وأهم الفرائض بعد التوحيد ، وهي عمود الإسلام ، وهي أعظم ركن وأعظم فريضة بعد الشهادتين ، فاتق الله فيها ، وحافظ عليها في الجماعة ؛ لقول الله - تعالى - : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ [77] ، ولقوله - سبحانه - : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [78] ، ولقوله - سبحانه - : وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [79] ، ولقوله - سبحانه - : وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ . أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [80] ، ولقوله - سبحانه - عن المنافقين : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [81] .
فلا ترض لنفسك بمشابهتهم ، ولا تكن مثلهم متثاقلاً عن الصلوات كأنك تُجر إليها جراً ، لكن كن نشيطاً قوياً ، مسارعاً إليها في صلاة الفجر وغيرها ؛ فلا تقدم النوم على صلاة الفجر ولا على غيرها ، بل كن صابراً ومسارعاً ، ومراقباً الله في جميع الأوقات .
وهكذا زوجتك ، وهكذا أولادك ؛ كن قوياً في هذا الأمر مع الزوجة ومع الأولاد ، ومع الخدم ، وأنت أولهم ؛ كن مسارعاً ، وكن قدوة في الخير ، إذا سمعت النداء فبادر إلى الصلاة في : الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء ، كما أمرك الله - سبحانه - بذلك، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
يقول الله - سبحانه - : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [82] ، والصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، خصها الله بالذكر لعظم شأنها ، ويقول - سبحانه - : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [83] ، وإقامتها هي : أداؤها كما أمر الله .
وإيتاء الزكاة هو : أداؤها لمستحقيها كما أمر الله ، فالأموال التي عندك أد زكاتها كما أوجب الله ؛ لا تبخل ، وجاهد نفسك في إخراج الزكاة حتى تؤديها إلى أهلها من هذا المال الذي عندك ؛ من نقود أو غنم أو إبل أو بقر ، أو غير ذلك من أموال الزكاة ، وعروض التجارة ؛ كالملابس والأواني والسيارات إلى غير ذلك مما يعد للبيع .
فعليك أن تؤدي عن كل مال زكوي كلما حال عليه الحول ؛ في المائة من الدراهم والدنانير وغيرها من العمل : اثنان ونصف في المئة - وهما ربع العشر - وفي الألف خمسة وعشرون ، وفي مائة ألف : ألفان وخمسمائة .
وهكذا في غنمك ؛ إن كانت سائمة ترعى في جميع الحول أو أكثره ، في الأربعين إلى مائة وعشرين : واحدة ، وهي : جذع من الضأن أو ثني من المعز ، وفي المائة وإحدى وعشرين إلى المائتين : اثنتان ، وفي المائتين وواحدة : ثلاث شياه ، ثم تستقر الفريضة في كل مائة شاه ؛ ففي أربعمائة من الغنم : أربع شياه ، وفي الخمسمائة : خمس شياه ، وهكذا .
وأما زكاة الإبل ، فقد فصَّلها النبي - صلى الله عليه وسلم - :
فجعل في الخمس من الإبل التي ترعى جميع الحول أو غالبه : شاة واحدة ، وفي العشر : شاتان ، وفي خمس عشرة من الإبل : ثلاث شياه ، وفي العشرين : أربعة شياه إلى خمس وعشرين .
فإذا بلغت خمساً وعشرين ، ففيها بنت مخاض – إنثى قد تم لها سنة – فإن لم توجد لدى صاحب المال ، أجزأ عنها ابن لبون – ذكر قد تم له سنتان – إلى خمس وثلاثين .
فإذا بلغت ستاً وثلاثين ، فيها بنت لبون – أنثى قد تم لها سنتان – إلى خمس وأربعين . فإذا بلغت ستاً وأربعين ، ففيها حقة – قد تم لها ثلاث سنين – إلى ستين .
فإذا بلغت إحدى وستين ، ففيها جذعة – قد تم لها أربع سنين – إلى خمس وسبعين .
فإذا بلغت ستاً وسبعين ، ففيها بنتا لبون إلى إحدى وتسعين .
فإذا بلغت إحدى وتسعين ، ففيها حقتان طروقتا الجمل إلى مائة وعشرين . فإذا زادت عن مائة وعشرين ، ففي كل أربعين بنت لبون ، وفي كل خمسين حقة .
وهكذا في البقر :
إذا كانت سائمة ترعى جميع الحول أو أغلبه ، ففي كل ثلاثين : تبيع أو تبيعة - قد تم لكل منهما سنة - .
وفي الأربعين : مسنة - قد تم لها سنتان - .
وفي الستين : تبيعان أو تبيعتان ، وفي السبعين : تبيع ومسنة ، وفي الثمانين : مسنتان ، وفي التسعين : ثلاثة أتباع أو ثلاث تبيعات .
وفي المائة : تبيعان أو تبيعتان ومسنة .
وفي المائة والعشرين : ثلاث مسنات أو أربعة أتباع .
ثم تستقر الفريضة ؛ ففي كل ثلاثين : تبيع أو تبيعة ، وفي كل أربعين : مسنة .
أما الحبوب والثمار التي تكال وتدخر ، ففيها نصف العشر ، إذا كانت تسقى بمؤونة ؛ كالسواني والمكائن ، أما إذا كانت تسقى بالمطر أو الأنهار ونحو ذلك ، ففيها العشر – إذا بلغت خمسة أوسق ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((فيما سقت السماء والعيون العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر)) [84] . أخرجه البخاري في الصحيح ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((ليس فيما دون خمسة أواسق من تمر ولا حب صدقة)) [85] . متفق على صحته .
أما صيام رمضان :
فهو الركن الرابع من أركان الإسلام ، يجب أن تتقي الله فيه ؛ فإذا جاء رمضان عليك أن تصوم مع الناس كما أمر الله ، وتحفظ صومك عن اللغو وعن الغيبة والنميمية وسائر المعاصي ، ولا تجرح صومك بشيء منها ، بل الواجب أن تصون صيامك عن كل المعاصي ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((من لم يدع قول الزور والعمل به ، والجهل ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [86] . أخرجه البخاري في صحيحه.
وعليك بالكسب الحلال ، تحرَّى الحلال من مكسب طيب ، واحذر الحرام ، وصم صوماً صحيحاً ، فإذا صمت فلتصم جوارحك عن كل ما حرم الله ، هكذا الصوم الكامل : أن يصوم المرء عن الطعام والشراب ، وأن يصوم عن كل ما حرم الله .
وهكذا في حجك :
لا ترفث ولا تفسق ، فإذا حججت فصن حجك عن جميع المعاصي ، احذر ذلك في جميع الأحوال ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((من حج لله فلم يرفث ولم يفسق ، رجع كيوم ولدته أمه)) [87] . متفق على صحته ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [88] . متفق على صحته ، والحج المبرور : هو الذي ليس فيه رفث ولا فسوق .
وهكذا : يجب عليك في جميع المعاملات الحذر من الغش والخيانة والكذب ؛ فقد مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على رجل عنده صبرة من طعام في السوق ، فكأنه أحس بشيء فيها فأدخل يده فيها ، فنالت أصابعه بللاً ، فقال : (( ما هذا يا صاحب الطعام)) ، قال : أصابته السماء يا رسول الله ، فقال : (( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ؟ من غش فليس منا )) [89] . أخرجه مسلم في صحيحه .
والمقصود : أن كتاب الله فيه الهدى والنور ، وفيه الدعوة إلى كل خير ، وفيه التحذير من كل شر ، وهكذا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها الدعوة إلى كل خير ، والتحذير من كل شر .
فوصيتي لنفسي ولجميع إخواني المسلمين هي : تقوى الله - سبحانه - في جميع الأحوال ، وتقوى الله هي : طاعته - سبحانه - بفعل الأوامر وترك النواهي ، مع الإخلاص له - جل وعلا - في ذلك ، والوقوف عند حدوده .
ومن تقوى الله - سبحانه - : العناية بالقرآن ، وتدبر معانيه ، والإكثار من تلاوته حفظاً أو نظراً ، مع التدبر والتعقل والعمل ، قال الله - سبحانه - : كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [90] .
فهو لم ينزل لجعله في الدواليب ، ولا لمجرد القراءة أو الحفظ ؛ وإنما نزل ليقرأ ، ويتدبر ، ويعمل به ، قال - تعالى - : كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [91] ، وقال - تعالى - : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [92] .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة في حجة الوداع : (( إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به : كتاب الله )) [93] ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً : (( إني تارك فيكم ثقلين : أولهما : كتاب الله ؛ فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) ، ثم قال : ((وأهل بيتي . أذكركم الله في أهل بيتي)) [94] ؛ يعني بهم زوجاته وقراباته من بني هاشم .
يذكر الناس بالله في أهل بيته بأن يرفقوا بهم ، وأن يحسنوا إليهم ، ويكفوا الأذى عنهم ، ويوصيهم بالحق ، ويعطوهم حقوقهم ما داموا مستقيمين على دينه ، متبعين لشريعته - عليه الصلاة والسلام - وصح عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه – أنه سئل عما أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : (أوصى بكتاب الله) ، يعني أوصى بالقرآن . فالقرآن وصية الله ووصية رسوله - عليه الصلاة والسلام - فالله - جل وعلا - أوصانا بهذا الكتاب فقال : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ [95] ، فهذه وصيته وأمره - سبحانه - باتباع كتابه والتمسك به ، وقال - عز وجل - : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [96] . الآية .
فهذا كتاب الله هو أحسن الحديث ، وهو أحسن القصص ، كما قال - سبحانه - في سورة يوسف : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [97] .
فهو أحسن القصص ؛ قص الله علينا فيه أخبار الماضين من أخبار آدم ، وأخبار نوح ، وهود ، وصالح ، وغيرهم من الرسل المذكورين في القرآن ، وقص علينا أخبار أممهم وما جرى لهم من العقوبات ، وما جرى للمتقين من النصر والتأييد والعاقبة الحميدة ، وليس هناك قصص أحسن منه ، كما قص علينا صفات أهل الجنة والنار ، وأنواع النعيم والعذاب ، وأخبار يوم القيامة ، والجزاء والحساب ، إلى غير ذلك من الأخبار العظيمة .
فالوصية أيها الإخوة - رجالاً ونساءً ، جناً وإنساً - هي : العناية بكتاب الله ، والإكثار من تلاوته وتدبره ، والعمل بما فيه ، وبسنة الرسول ؛ لأنها داخلة في ذلك ؛ فسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - داخلة في الوصية بكتاب الله ؛ لأن الله - سبحانه - أوحى إليه القرآن والسنة ، قال - جل وعلا - : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [98] .
وقال - سبحانه - : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [99] .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)) [100] .
فالوصية بالقرآن وصية بالسنة ؛ فالواجب على جميع المسلمين هو العمل بالكتاب والسنة ، وتحكيمهما في كل شيء . وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي : أحاديثه الصحيحة ، والاستفادة منها ، وحفظ ما تيسر منها أيضاً ، والسؤال عما أشكل منها ؛ لأن الله أوصى بها .
قال – تعالى - : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [101] ، وقال - جل وعلا - : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ؛ يعني : عن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - : أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [102] ، وقال - جل وعلا - : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [103] . نسأل الله العافية .
والوصية لنفسي ولكم ولجميع المسلمين ، ولجميع من بلغه هذا الكلام ، الوصية هي : تقوى الله ، والعناية بكتاب الله الكريم ، والتواصي بذلك قولاً وعملاً ومذاكرة ، ومن ضيع ذلك فهو خاسر . قال - تعالى - : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [104] . فهؤلاء هم أهل السعادة ، وهم أهل الربح ؛ الذين آمنوا بالله وبرسوله ، وحدوده ، وأخلصوا لله العبادة ، وأدوا فرائضه وتركوا محارمه ، وتواصوا بالحق : أي تناصحوا فيما بينهم ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ثم مع ذلك صبروا ولم يجزعوا حتى لحقوا بربهم، وهم المذكورون في قوله - تعالى - : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [105] .
هذا هو شأنهم ، وهذا شأن المؤمنين ، وقد وعدهم الله بالرحمة ، فقال - تعالى - : أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ، وهذا جزاؤهم في الدنيا بالتوفيق والهداية والتسديد ، وفي الآخرة بدخول الجنة والنجاة من النار ، وهم المذكورون في قوله - تعالى - : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [106] . ويقول - سبحانه - في هذا المعنى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ؛ البر والتقوى هو : أداء فرائض الله وترك محارمه ، ثم يقول - سبحانه - : وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [107] . ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : (( الدين النصيحة )) ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ ، قال : ((لله ولكتابه ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم )) [108] . رواه مسلم في الصحيح ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )) [109] ، وشبك بين أصابعه ، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [110] .
هكذا كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم بإحسان ؛ متعاونين على البر والتقوى ، متناصحين ، متواصين بالحق والصبر عليه ، دعاة للخير ، محذرين من الشر، صُبر في جميع الأحوال . وعليكم أن تكونوا كذلك مع أهلكم ، ومع أولادكم ، ومع جيرانكم ، ومع جلسائكم ، ومع جميع المسلمين أينما كانوا ؛ في الباخرة ، وفي الطائرة ، وفي السيارة ، وفي البر ، وفي البحر ، وفي أي مكان ، فعليكم أيها الإخوة – أن تكونوا متواصين بالحق متناصحين ، متعاونين على البر والتقوى ، دعاة للخير ، محذرين من الشر ، معتنين بكتاب الله تلاوة وتدبراً وتعقلاً وعملاً .
والله المسئول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ، أن يوفقنا وإياكم للفقه في دينه ، والثبات عليه ، وأن يعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، وأن يوفقنا للعناية بكتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والاهتداء بها ، والعمل بما فيها.
وأن يكون كتاب الله - سبحانه - خُلُقاً لنا كما كان خلقاً لرسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - وأن يعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من مضلات الفتن ، ومن نزغات الشيطان ، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته ، وأن يجعلنا وإياكم من أنصار دينه ، والدعاة إليه على بصيرة ؛ إنه سميع قريب . وصلى الله وسلم على عبده ونبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
[1] سورة الإسراء ، الآيتان 9 ، 10 .
[2] سورة النحل ، الآية 89 .
[3] سورة فصلت ، الآية 44 .
[4] سورة الإسراء ، الآية 9 .
[5] سورة إبراهيم ، الآية 1 .
[6] سورة الأنبياء ، الآية 50 .
[7] سورة يس ، الآيتان 69 ، 70 .
[8] سورة ص ، الآية 29 .
[9] سورة الأنعام ، الآية 155 .
10] ] سورة محمد ، الآية 24 .
[11] سورة القلم ، الآية 4 .
[12] سورة يوسف ، الآية 3 .
[13] سورة المزمل ، الآية 30 .
[14] سورة المائدة ، الآية 2 .
[15] سورة العصر.
[16] رواه مسلم في الحج ، برقم : 2137 ، ورواه الترمذي في المناقب ، برقم : 3718 .
[17] رواه الحاكم في المستدرك 1/93 ، عن أبي هريرة ، وفي فيض القدير للمناوي 3/3282 ، وفي كنز العمال ، برقم : 876 .
[18] سورة التغابن ، الآية 12 .
[19] سورة النور ، الآية 54 .
[20] سورة المائدة ، الآية 92 .
[21] سورة النساء ، الآية 80 .
[22] رواه الترمذي في فضائل القرآن ، برقم : 2831 ، والدارمي في فضائل القرآن ، برقم :3197 .
[23] سورة الأنعام ، الآية 159 .
[24] سورة آل عمران ، الآية 105 .
25] ]